جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة

غروب-الشمس-sunset-غروب-الحياة-موج-متلاطم-

"فقد الأحبّة غربة"

دموع.. وحزنٌ.. وألم يعتصر قلبك.. ويلهيك عن صادق البسمات وعميق السمر والأحاديث.
كل هذا لا يساوي شيئًا أمام هدوء الفقد، وبعد الحياة عن الحياة.
قرع عصاه على الأرض.. بوقار..
ضجيج "العزبة" الخافت.. في ثلث الليل الأخير..
وصاياه: "وداعتك الصلاة يا ولدي.. الصلاة ما عقبه شي"..
الساعة العاشرة من صباح الجمعة..
قصص الأولين من الأحبة المفقودين..
الروضة.. خلف الإمام..
ذلك التصفح للمصحف.. يطالعه ويتأمله وكله رغبة في معرفة القراءة كي يتلوه..
كرهه الشديد للغيبة في مجلسه..
كرهه للجدال.. وأحاديث القيل والقال..
حياةٌ كاملة.. بوجودها.. وتفاصيلها.. وتجسيدها بملامح الحبيب.. وصوته.. ونظراته..

***

94 سنة..
دخلتُ في خط حياته وعمره 68 سنة..
أعطاني من روحه وفكره كل ما يتوقع من الجد أن يعطيه..
يسأل عني دائمًا..
يداعبني كثيرًا..
أشعر بحنانه في كل نصيحة ولمحة..
أشعر بحبه الشديد لي وللعائلة..
لا يفتر عن النصح والتوجيه واستعادة العبر من الحكايا والذكريات..

***

تعلمت منه "صلة الرحم" فكان نموذجًا صعبًا وذا همة عالية، إذ لا يفتر عن السؤال وتتبع أخبار الأرحام.. ولو كانوا من الأباعد (بنظر شباب اليوم).

***

كان مؤذنًا في المسجد طوال عشرين سنة.. قبل أن تتقدم به السن ويقرر الاستقالة،
وكان محافظًا على الصلوات الخمس في المسجد قبل أن يشتكي من قدميه..
ومحافظًا على قيام الليل.. في آخر الليل.

رحمة الله عليه..
إذا جاء ثلث الليل الأخير، استيقظ.. واتجه إلى "المعاميل".. وصنع الشاي لنفسه.. ثم يتوضأ ويصلي ويشرب من الشاي ويسبح الله ويستغفر حتى أذان الفجر.

أحمد الله أنني وثقت هذا العمل بالفيديو.. كي يكون درسًا لي وذكرى أستعيدها صوتًا وصورة بين الحين والآخر.

جدي-الشيخ-حمود-جزاع-النماصي-التسبيح-قيام-الليل-ذكر
في شتاء 1431هـ: جدي -رحمة الله عليه- جالسٌ في ثلث الليل الأخير.. يسبح.


***

كشيخ قبيلة.. بذل للقبيلة ما بذل من إخراج الأراضي الزراعية لعوائلها، والسعي في ذلك طوال عشرين سنة، لم يكل ولم يمل أبدًا.. وحتى مخيّمنا الأخير قبل قرابة الشهرين كان يذكر من هو موجودٌ من الأفراد بتلك الأراضي.. وأهميتها.. لا يهمه إن قوبل ببرود من البعض أو لا مبالاة.

كان بين الحين والآخر، منذ طفولتي.. وحتى سنواته الأخيرة.. يطلبني لأقرأ له الأوراق فأجدني أتجول في الماضي، وأرى بعيني مقدار الجهد الذي بذله جدي –رحمة الله عليه- لسلوك كل الطرق الرسمية لطلب كل حقٍّ توفره الدولة للقبائل.. حتى يوفره لأعضاء القبيلة، وليقوم بواجبه كشيخ لها.

كان –رحمه الله تعالى- يحب استغلال جاهة مركزه كشيخ قبيلة وصاحب علاقات مع رجالات القبائل والمؤسسات الرسمية.. في الخير، كالإصلاح بين الناس، والسعي في تيسير زواج الغير.. وكان يطرب لذلك ويحبه ويبحث عنه ويتمناه.

تعلمت منه كشابٍ أصابته جدران المدنيّة وأيقونات الأجهزة والاختراعات بشيء من الغرور والتعالي على الألقاب والمنازل أن أقدر كبير القوم، وأحترم درجات الناس.

***

مجلسه كان –ولا زال بحمد المولى سبحانه- مفتوحًا منذ عشرات السنوات، ومنذ أن كانت العائلة تجوب البلاد والديار مع البدو الرُحّل.. وحتى استقرت أخيرًا في رفحاء الفتيّة، لا تسمع فيه إلا الحكم والأشعار، وصلة الأرحام، والسعي في خدمة الناس، وهو قبلةٌ لمعارف جدي خلال سنوات عمره الطويلة، ممن أعرف أنا وممن لا أعرف، فهذا رجل محتاج جاء من أقصى الديار يسعى جدي لجمع الأموال له لوجاهته من الأقارب والجيران في مجلسه، وآخر يأتي من جهة الغرب البعيد لا يعرف من ديار الشمال إلا مجلس ابن اللحيدان.. ينام عنده.. ويكون المجلس منطلقًا لإتمام ما جاء لأجله.. وو.. مما أذكر ومما لا أذكر.

في آخر أيامه كان لديه رغبة كبيرة جدا في فتح المجلس طوال اليوم، أليس هو القائل:

نطيت أنا من عاليات الرجومي *** رجم طويل وعاسراتن مراقيه
ياصار لك ربع وحظك يقومي *** البيت يبنى في راس عواليه
سو فنجال عسى عمرك يدومي *** فنجال بن والمسايير تاتيه


لو كان الأمر بيده لترك مجلسه مفتوحًا أربعًا وعشرين ساعة، فقد كان يخشى أن يقصده أحدٌ ما من مكان بعيد من أفراد القبيلة وغيرهم، فيجد الباب مغلقا.. لذلك كثيرًا ما وجدته يترك الباب مفتوحًا وينام في مجلسه.. حتى في أوقات الراحة والاسترخاء، كالظهيرة.. .

كان رجالات المدينة، ومشايخهم.. ورجال الحي إذا ضاقت عليهم المشاغل، وملوا روتين يومهم، انطلقوا إلى مجلس جدي ليجدوا الأنس والكلام الجميل والجو الودي، يقول أحدهم:

يافريح ودن لبيت حمود *** على هلا وتضحك أنيابه
بيتٍ نظيف عن المنقود *** الصدق والطيب يلقابه
ودلال صفر ٍوبعضهن سود *** أنا وغـيـري تمعنـا به
فنجال يبري عن اللاكود *** ومبهر الهيل يزهى به
حمود شيّب وطـاب بـزود *** على البعيدين واقرابه


وأنا أشهد بصدقه: "على هلا وتضحك أنيابه".. فهذا ما يفعله جدي كأني أراه مسفر الوجه وأسمع صوته الجهور وهو يردد: يا هلا.

رحمة الله عليه.

لو تكلمت.. طال بي المقال،
لكن حق أحبتنا أن نمسكهم في دعائنا،
أبدًا لا ننساهم.. فنحن نوافذ خير الدنيا لهم،
ونحن أحبار الخير الدنيوية على صفحات آخرتهم.. وقيامتهم،
أجدادكم.. آباؤكم.. أقاربكم.. أصدقائكم.. وكل من سار معكم في خط حياتكم حينًا من الدهر.. ثم تخطفهم ريب المنون،
أبدًا لا تنسوهم من صالح دعائكم،
أبدًا لا تنسوهم من الأعمال الصالحة.

دعوا الأنانية.. وحاربوا الغفلة.. بالدعاء لأحبتكم الذين غابوا عن دنياكم.

اللهم اغفر لجدي حمود جزاع النماصي.. الله اغفر له وتجاوز عنه وارحمه برحمتك يا رحمن يا رحيم،
اللهم اغفر لأحبتي.. وموتى المسلمين، وأكرم نزلهم، وأعتقهم من الحساب والعذاب يارب العالمين.

ملاحظة: هذا المقال كتبته عن جدي –رحمة الله عليه- الذي انتقل إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء 29 / 5 / 1431هـ.

والله المستعان.
17 تعليقًا
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

  1. ..

    اللهم أنت الكريم أكرم نُزله ..
    اللهم أنت الرحيم تجاوز عنه ..
    اللهم أنت الغفور ، الودود ، أفسح له في قبره ، واجعله روضة من رياض الجنة ، إنك أنت اللطيف الوهاب .

    أحسن الله إليك أخي / راكان ..
    وما قلته في نهاية مقالك درس ، ونقش لا بد أن يكون حاضراً في قلوبنا ، وعقولنا ، لكل من له حق علينا .

    ردحذف
  2. أسأل الله الكريم أن يمن عليه من فضله ويتجاوز عنه بعفوه ورحمته .

    نفسك الهادى بالكتابة يظهر مدى تأثرك الشديد بفقده رحمه الله ، ولو كان الأمر بأيدينا لدفع الواحد جميع مايملك ليبقى له أحبابه ، ولكننا كلنا أموات أبناء أموات وهذا قضاء الله وقدره ولا راد له سواه .

    أحسن الله عزاؤكم ، وغفر لميتكم .

    ردحذف
  3. عظم الله اجركم و احسن الله عزائكم
    اسال الله ان يغفر له ويرحمه

    ردحذف
  4. بائع الوَرد !22 أبريل 2010 في 3:49 م

    أقرأ حروفك ، وأحاول الإسراع خشية أن تسقط دموعي ، أسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ، وأن يجبر كسر قلوبكم ، وأن يحفكم وذويكم بالصبر والسلوان .

    الملتقى الجنة يا راكان ، الملتقى الجنة يا راكان ، الملتقى الجنة يا راكان ..

    ردحذف
  5. أنا أشهد على كل كلمة قلتها يالثائر


    تأثرت بهذا V
    V

    قرع عصاه على الأرض.. بوقار..
    ضجيج "العزبة" الخافت.. في ثلث الليل الأخير..



    الله يرحمه ويوسع له في قبره ويدخله فسيح جناته

    يااااااااااااارب العالمين

    سنفتقده بشدة

    ردحذف
  6. الى رحمة الله ابا عارف .رحمه الله وربط على قلوب محبيه.

    واسال الله ان لا يعدم امثاله

    ردحذف
  7. الناسك’ آمين.. جزاك الله خيرا وبارك فيك عزيزي.

    سعيدٌ بمرورك الطيب.

    ردحذف
  8. أبو زيد’ آمين.. الله يجزاك خير ويشكر لك مرورك الجميل.

    كما قلت أخي الحبيب: نحن أموات أبناء أموات.

    والله المستعان.

    ردحذف
  9. زمردة’ آمين.. الله يحسن إليك ويجزاك خيرا أختي.

    ردحذف
  10. غير معرف’ نعم سنفتقده بشدة.. جمعنا الله به وبأحبتنا والمسلمين في مستقر رحمته. آمين

    جزاك الله خيرا.

    ردحذف
  11. الجار الفاضل عمر مهدي’ آمين.. جزاك الله خيرا، ولا أراك مكروها.

    حياك الله عزيزي.

    ردحذف
  12. غفر الله لجدك ورحمه وغفر لجميع المسلمين ..هم السابقون ونحن اللاحقون ...رفعه الله في درجات في عليين عنده .
    اولئك الجيل الصالح جدي وجدك ..وكانك تتحدث عندي جدي رحمه الله ...مدرسه بحد ذاتها في كل امر ان كان دين او ادب او علوم رجال او كرم او صدق ..هم رجال قليل مايجود بهم الزمان
    عوضكم الله بفقده خير ولو ان الاحبه فقدهم لايعوض

    ردحذف
  13. بوح القلم’ اللهم آمين، فعلا هم مدرسة.. نسأل الله أن يجمعنا بهم في مستقر رحمته.

    جزاك الله خيرا.

    ردحذف
  14. رحمة الله عليه

    اللهم وسع قبره ووسع مدخله واغسله بالماء والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقا الثوب الابيض من الدنس .

    اللهم لا اله الا انت سبحانك نستغفرك ونتوب اليك

    عظم الله اجرك .. واحسن الله عزاكم

    ردحذف
  15. أبو مريم’ آمين.. جزاك الله خيرا أخي الفاضل وبارك فيك.

    ردحذف
  16. أنا آسفه إعذرني أخي راكان ، لم أقرأ مدونتك عن وفاة جدك إلا الآن ... اللهم ارحم امواتنا المسلون جميعا وثبتهم عند السؤال فكم فوجعنا بموت من احببنا ومن عرفنا .. اناسا قد حسبنا انهم سيخلدون لنا والخلود لله سبحانه وتعالى ...
    ( اللهم اغفر له وارحمه يا رحيم ووسع عليه منآزله وباعد بينه وبين خطاياه كما باعدت بين المشرق والمغرب وأدخله جنات الفردوس الأعلى يا عزيز يا مقتدر ).. اللهم آمين ..
    رجل كجدك يا أخي المحترم لا خوف عليه ولن يضيع الله تعالى أجره بإذن الله ..

    ردحذف
  17. آمين.. آمين، جزاك الله خيرًا أختي على دعائك وطيب متابعتك، شرفت بمرورك.

    ردحذف

إعلان أسفل المقال