جاري تحميل ... مُدَونة كِتَاف

إعلان الرئيسية

إعلان في أعلي التدوينة


    ماذا لو نصحك أحد أحبّتك، أو أفتاك أحد أهل العلم، أو ذكر لك كاتب ما أو مفكر مسألة يعتقد بها.. ثم قال في النهاية (وهذا رأيي)، ما هو الأمر الذي يرد في خاطرك بمجرد ذكر هذه الجملة؟! 

    أعتقد أن أغلبكم سيجمع على التقليل من شأن المعطى أو الفكرة التي طرحت أمامك بمجرد وصول هذه الجملة إلى مسمعك، لأنها ارتبطت في أذاهننا بسهولة هدمها وضعفها وهوان حجتها وعدم أهميتها. 

    ومع هذه المعاني المؤسفة التي ارتبطت بمعنى كلمة (الرأي) لسنا بحاجة إلى التذكير بأن اختلاف الآراء رحمة وأمر محمود ومطلوب.. إلخ هذه الشعارات العتيقة مقارنة بواقع الحال. 

    كلمة (رأي) صارت تعبّر عن أمرٍ لا يستحق الوقوف معه كثيرًا، ولم يتوقف على كونه (غير ملزم)، بل تجاوز الأمر إلى اعتبار الالتفات إليه مضيعة للوقت، مهما عبّر هذا الرأي عن تعدٍ واضح أو تسطيح أو شذوذ.

    كما أن كلمة (رأي) صارت وسيلة للهروب عن التصريح والنصح والمواجهة، وتحولت إلى وسيلة مجاملة وتعزيز وعدم مبالاة بالحق أو بالباطل، ولك أن تتصوّر أحد مقتضيات هذه المعاني الجديدة لكلمة (الرأي) حين تحشد الأدلة والبراهين لرأيك، ثم إذا انتظرت من الطرف الآخر رأيًا ذا بال ويستحق الوقوف عنده، اختصر الكثير بقوله: هذا رأيك، وظنّ أنه أتى بما لم يأت به الأوائل، دون أن يعطي من نفسه شيئا في إبداء الرأي والحجّة، ليصبح (الجهل) و(الكسل) و(العناد) و(عدم الوقوف عند الحق) و(العبث اللغوي) و(الهوى) من المعاني الجديدة كذلك لكلمة (الرأي)، وأين هيبة الرأي بعد هذه المعاني من مثل: (أجتهد رأيي ولا آلوا)؟!

    ومن الطريف أن بعض المفكرين اعتبروا الرأي في إطار العلم التجريبي -مهما اجتهد فيه- أكبر عائق للوصول إلى المعرفة العلميّة، فينبغي تجاوزه للوصول إليها، مع العلم أن الكلام هنا عن الرأي الذي أفرغ صاحبه وسعه فيه، فكيف برأي أتي به في سياق هذه المعاني الميّتة غايةً وهدفًا نتخلص فيه من أعباء البحث ونختصر فيه الكثير من الجهد المعرفي؟! 

    وقد كان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجتهد بالرأي ويقول: "الرأي إنما كان من رسول الله مصيبا فإن الله كان يريه، وإنما هو منا بالظن وبالتكلف"، وأظن أن لسان حال هؤلاء هو "وإنما الرأي منا بالجهل والهوى والعبث اللغوي.. إلخ"، فلا اجتهاد ولا بذل ومراعاة لأي شروط تتعلق بالدين أو حتى الأدب. (1)

    أن تكون صاحب رأي، كان يعني يومًا أنك صاحب حجّة تخالط أنفاسك وروحك وتستحق النقاش الجاد حولها؛ لأنك تؤمن بها وتبذل لها وتدافع عنها حتى يتبين لك غير ذلك، وحتى لو تبيّن لك؛ فإن الانتقال إلى الطرف الآخر من الرأي حادثٌ يعني لك الكثير في حياتك وفيه من العبر ما يستحق أن يكون أهم رواية تحكيها عن نفسك في قابل أيامك، لكن صار الرأي في أيامنا هذه مرتبطًا بالشخص المهزوز الثقة والذي لا يحمل أي مبدأ يدافع عنه أو يتحمس له؛ بل مجرد شخص بليد لا يستفزّه أي تجاوزٍ لما يُفترض أنه رأيٌ اقتنع به وآمن، ولا يبالي أتبيّن له الحق عند الآخر أو لا، فكلّه في النهاية مجرد (رأي)، والرأي عنده مجرد أكسسوار آخر يلتهي به في المواقع الاجتماعية ومجالس القيل والقال.

    ومن البلايا التي تعلقت ببعض أهل الفتيا والنصح في زمننا هذا، أنك لا تعلم.. هل المخاطب يقرر أمرًا واضحًا عنده، أم يتشاور مع نفسه بصوت مرتفع في مجال الفتيا، فلم يقم إلا بزيادة حيرتك.. بحجّة أنه (رأي) في النهاية.

    لماذا لا نصرّح بآراءنا بوضوح وبالأدلة؟ لماذا لا نجعل من أمامنا يعلمون أننا نحكي عن رأينا حقا؟ ونجعل القارئ أو السامع يثق تمامًا أننا نحكي رأيًا نقتنع به لا لغزًا، ومتى كان (الرأي) مرادفًا للحيرة والتردد وعدم الثقة؟!! هو رأيك -كما يفترض-.. قله بوضوح وصراحة واذكر أدلتك واجعلنا نحس أنه رأيك حقًا. 

    كيف يعقل أن يطرح أحد منا (الرأي) ملوثًا بهذه المعاني الجديدة له، ثم يتوقع أن يقنع غيره، أو يجد الحق عند هذا الغير؟! لابد من أخذه بقوة ولا بد من الحماس له، واقرؤوا سير العظماء الذين ثبتوا على فكرة آمنوا بها وصبروا حتى نصروا رأيهم بثبات على عقيدة، أو حتى حماس لفكرة اختراع أو نظرية.. ونحو ذلك، فما لنا نرى أقوامًا ينسبون أنفسهم للرأي.. ثم يتعاملون وكأنهم "لا يمونون معه!!". 

    والأخطر أن يقول (هذا رأيي) وهو يسلك طريق الأخسرين أعمالا: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)، فيرتكب الفظائع في حق دينه وأمته.. ثم يرى أنه لم يتجاوز الرأي في ذلك، ونسي نقاش الله -سبحانه وتعالى- له يوم الحساب، والميزان، حيث سيعرف وقتها أن مجرد (الرأي) لن ينجيه إذا هزلت الحجّة أو غابت.

    (خذ الكتاب بقوّة).. و(الرأي) في هذا المعنى.. لا يجتمعان في قلب المرء العالم العارف المحب للعلم، وقد كنا نقرأ في سير العظماء أيًا كانت عظمتهم حتميّة مواجهة الصعوبات، وصرنا نقرأ في سير بعض عظماء(!) اليوم أن الصعوبات مجرّد رأيٍ لا يستحق جلب العداوات لأجله، فعاش ومات بليدًا مستمتعًا بحياته يحبّه أهل الحق والباطل.

_________________________________________________

(1) للاستزادة ارجع لمقال: حول مفهوم الرأي، إبراهيم عبدالله، مجلة الرائد العدد 188.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.

إعلان أسفل المقال