قرأت العديد من المقالات التي بنيت فكرتها الأساسية على مقولة شهيرة للإمام سفيان الثوري –رحمة الله عليه- يقول فيها: (العلم هو الرخصة من عالم ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد)، يأتون بهذه الجملة وينفخونها ويهجون بناءً عليها ويعبثون بالمصطلحات ويصنفون المظاهر ويصفّونها ناحية الرخصة والتشدد كما يشاؤون.. وخذ من العبث المنطلق من هذه المقولة، بينما حين نعيش الواقع ونقف على مسافة واحدة منه ومن هذا التنظير سيطرأ عليه بعض الأفكار.
أولها، التيسير في عصرنا هذا صار يحسنه أي أحد، خصوصًا إذا كان يُفَصَّل على مقاسات الأكثر مالًا والأعزّ نفرًا بنظر المهزوم، مع سهولة الركون إليهم والاتكاء عليهم، ومع قُرب دعمهم وسرعته وتأثيره.
ما أيسر وما أسهل وما أهون أن يكون أحدنا "ميسِرًا" حسب مقاسات عصرنا الباطلة لا حسب المقياس النبوي النبيه بالواقع والمعتز بالوحي لا يخشى فيه لومة لائم، بشروط سهلة أهمها ألا تبالي بالواقع ولا سياقه وأن تتساذج وتطرح الفتاوى كمسائل فقهية بحتة لا يهم الواقع الذي يختطفها وينفخ فيها، كما هي حال بعض من صاروا ألعوبةً برضاهم أو بغفلة منهم.
صاروا -بزعمهم- لا يخافون في الله لومة لائم أمام طائفةٍ تنصر السنة وتحافظ على الأعراض وتحارب انحراف من ظلموا الناس في دينهم ودنياهم، بين تختفي "لومة لائم" حين يقف هؤلاء المنسوبين للعلم أمام الإعلام والمنحرفين، فيركنون إليهم.
في عصرنا ستجد فتاوى التيسير والرخصة لبوتين وبشّار من عمائم تنسب نفسها للدين، وستجد أخرى للعلمانيين والملحدين والليبراليين والاشتراكيين والقوميين.. إلى آخر هذه القائمة البائسة.
وفي عصرنا ستجد فتاوى التيسير والرخصة للتجّار والبنوك، وستجد كذلك فتاوى تيسير ورخصة خاصةٍ بالفنانين والمغنين.
ستجدى فتاوى تجعلك تهجر المسجد، وتشرب الخمر، وتأكل الربا، وتزني، وتسمع الغناء، وتطلق العنان لسمعك وبصرك، وتحتفل بأعياد الكفار، وتحضر طقوسهم، وتدخّن في نهار رمضان.. ووو.
ولن أكون كاذبًا حين أقول أنك ستجد فتاوى تيسير تجعل الرجل يقف أمامك فلا يفرق بينك وبين الإنسان الغربي الكافر لا في الفكر ولا اللبس ولا التعامل ولا في أي شيء إطلاقًا حتى تفجأه وتخبره بأنك مسلم!!
أما ثانيها، فأجزم أن التشدد المقصود في المقولة يرتبط بفتوى العالم، بينما بعض المشبوهين والراكنين إلى المشبوهين يسقطون هذا التشدد على ثوابت عقدية وفكرية لها تأثيرها المباشر في مجتمعات الناس وواقعهم من خلال تطبيقها وعيشها، وإسقاط هذه الجملة عليها ضربٌ من الظلم والتحريف، فما يطلق عليه تشددًا (وحتى لو كان تشددًا حقًا) يستحيل أن يجيده أي أحد ولا يصبر عليه أي أحد منطقًا وعقلًا، حاله حال أي تطبيق متشدد لأي فكرة تحتاج إلى بذل ومجاهدة وعطاء، سواء أكانت حقًا أم باطلًا، فالتشدد هنا لا يجيده أي أحد لأنه تطبيق وعمل وجهد وبذل للأموال والأنفس، فكيف نقول عن تطبيق التشدد: يجيده أي أحد!!
أن يأتي أحدهم ويشير نحو متشددٍ يرى كفر صاحب الكبيرة ويقوم بقتل المسلمين ويعمل لذلك وتحفه المخاطر (على فرض أن نموذجه الذي يظهره الإعلام مسلم حقيقي في الأصل وليس ألعوبة من الألاعيب الاستخباراتية التي تستهدف منطقتنا)، ثم يقول: هذا يحسنه أي أحد!! أعتقد أن هذا الإسقاط مجرّد هجاء بـ "أي كلام"، وتكليف للمقولة فوق طاقتها.
وأما ثالثها، فالواقع يحكي جيدًا أن الهروب من الفتن، وانتقاء الحق والباطل من بحار الفتاوى والأطروحات الفكرية، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم، هو الأصعب، وأن الانغماس فيها تحت حجّة (التيسير) هي التي "يحسنها أي أحد"، والإثم ما حاك في النفوس؛ الكل يعلم ماذا فعل شعار التيسير بأمتنا منذ 150 سنة حتى تبلّدت الشعوب من شهوات "التيسير".
ما أيسر وما أسهل أن يأتي دعاةٌ يهاجمهم منحرفو عصرنا وينقلبون بين (ليلة وضحاها) بـ (لقاء تلفزيوني عابر) أو (تغريدة) إلى (نجوم) و(أئمة) و(عظماء) بسبب فتوى تيسير تركن إلى أهل الشهوات والشبهات، انظروا ماذا فعل المنافقون والشهوانيون بدعاة أباحوا لهم الغناء والاختلاط والسفور، جعلوا الواحد منهم (بابا نويل) الفكر يحتفلون به ويمجدونه، فأين (العسر) الذي وجده؟!! وأي صعوبة بالغة أحسوا بها في تيسير الشهوات لأهلها؟!! بل بمجرد أن أرى سحنة بعض التافهين الذين لا حفظوا قرآنًا ولا جلسوا في مجالس العلم والسنّة ويكرهون أساسًا طريق المعرفة كلها دينه وكفره من فنانين ورقاصات ولاعبين وهم يفتون ويعطون رأيهم في (التيسير) أعلم جيدًا وأتيقن تمامًا أن التيسير في عصرنا.. هو الذي يحسنه أي أحد.
ولعل سفيان رحمه الله يعني بمقولته التيسير المبني على معرفة بالأدلة الشرعيةحيث الشريعة هي يسر.
ردحذفأوضح أكثر مثلا من ليس عنده علم وكانت عنده حرص للدين سوف يجعل بعض الأمور من الدين ولو طلب العلم لتركها فلو تقرأ بعض الأسئلة والاستفتاءات ستحد منه كثير.
ولم يقصد سفيان رحمه الله التمييع الحاصل في هذا الزمن
هو الحديث ليس مركزًا على مقصد الإمام رحمه الله تعالى.
ردحذفوإنما الفكرة تدور حول الاستخدام السيء والمريب لها.
بارك الله فيك.
بارك الله فيك و أعيد صياغة ما قال الأخ حمد محمد في أن الاستخدام السيء لهذه المقولة لم يكن إلا بتجاهل قول سفيان "العالم الثقة" فلا عبرة برخصة الجاهل و لا حتى العالم الخائن أو المداهن.
ردحذفو هناك ملاحظة و هي أن الرخصة في الأمور السياسية هي ما كان باتجاه الإنكار على ديكتاتورية الفرد أو الجماعة (الديمقراطية) و ليس العكس، فالتشدد في منع ذلك و كبح ما تتوق له النفوس الأبية من الإنكار على هذه الديكتاتوريات يحسنه كل أحد.