ما كتبته في هذا المقال عبارة عن رأي شخصي بحت، لا ألزم به أحدًا، ولا أقصد به شخصًا بعينه ممن أتابعهم في مواقع التواصل الاجتماعي، بل أتكلم عن ظاهرة رأيتها تتكرر أمامي منذ دخولي في هذه المواقع الاجتماعية، وأنا أتابع في مجموع هذه المواقع قرابة الألفين شخص، طالعت ما أقصده هنا في المئات منهم، وهي نصيحة لكم أن تتقبلوها عن قناعة، أو تتجاوزوها بالمعروف.
وحديثي يرتبط بطبيعة علاقة مهمة تربط بين البشر وهي علاقة الصداقة، والتي أعتبرها أصعب وأكثر تعقيدًا بكثير من علاقة العائلة والدم، لأن ثمن علاقة العائلة هو مجرد ولادتك بينهم وتربيتك بينهم، فلا تحتاج لكبير جهد كي تكوّنها، ففي طفولتك أنت على استعداد أن تصادق عمود كهرباء، أو شخصية خيالية.. لا يهم!، أما علاقة الصداقة فثمنها غال ولا يعوّض.. وهو العمر والزمن، تبدأ من المجهول الغامض حيث لا يعرف أحد صاحبه، وتستمر باقتطاع أوقات الذروة من حياتك، وهذا ثمنٌ عظيم للغاية، والخطأ بالاختيار مكلف جدًا؛ لأن مصرف العمر لن يعيد أيامك، وما صرفته من عمرك لمن يستحق أو لا يستحق، لن يعود.
لذلك أتفهم أن تأسى وتحزن من صديقٍ جفاك، وربما اختار غيرك، أو نجحت الدنيا بإلهائه عنك، أو فرقت المشاكل بينكما.. إلخ قائمة المآسي التي تتكرر في خواطر أقرأها وتغريدات أطالعها، وأتفهم أن تأسى من كونك قد صرفت عمرك في (مضيعة وقت) أخطأت باختياره، وأنك لو أضعت ذلك الوقت على من هو أكثر وفاء وأخلاقًا، لكنت في حالٍ أفضل.
كما قلت أتفهم ذلك، لو كان في حدود المعقول.
كما قلت أتفهم ذلك، لو كان في حدود المعقول.
الذي لم أستطع تفهّمه، هو هذا التتابع في خواطر الأسى، وسيطرة (الحزن) عليك، واصطناع الأجواء الدرامية حولك، ومن ثمّ بثّها في أحاديثك أو كتاباتك، حتى سيطرت على فكرك وبثّك، مع أن الذي حزنت من أجله أو من أجلهم هم كذلك قد اقتطعوا من أعمارهم لك، وما وجدوه في غيرك ستجده في غيرهم، وما حزنت عليه من أوقات الذروة في عمرك، المفترض أن يحزنوا عليه، لأنه من عمرهم كذلك.
العمر ثمين.. بلا شك، لكنك ترتكب الخطأ مرتين، فما أضعته من الوقت فيمن تظن أنه لا يستحقه، أنت تضيع من الوقت الآن عليه، في التأثر والحزن وتتابع ذلك وبثه في كل كتابتك وصورك، وربما حتى حالتك في البايو والتوبيكات ونحوها، وأرى أنه من غير اللائق مطلقًا على الرجال بالذات أن تراهم في مواضع منكسرة ورقيقة وباستمرار وديمومة لا تليق إلا بأنوثة الفتيات، وحتى الفتيات لا يصح منهن هذه المبالغة في ردة الفعل.
وأرى أن نصائح حكماء العرب كالشافعي في أبياته الشهيرة (إذا المرء لا يرعاك..) والمتنبي (أصادق نفس المرء..) وابن أبي الحديد (تكثر من الأخوان..) ونحوها، كافية في تحديد طبيعة الصداقة وتجاربها ومآلاتها المختلفة، وتوجيهك لما هو أصلح لك ولبالك وحياتك وعلاقاتك، فهم أكثر تجربةً وحكمةً.
ولعل من أجمل نتاج أهل العلم والمشايخ والفضل في العشرين سنة الماضية، تلك الوصايا المتعلقة بضبط عاطفة المسلم، ومشاعر الحب لديه، والاتزان في بثها بين حب الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم العائلة والعمل والصداقة والزمالة، هذا التوازن يجعلك عادلًا في حياتك، تعطي كل ذي حقٍ حقه، بدل هذه النياحة المخجلة على أشخاص مهما كانت قناعتك بروعتهم أو أهميتهم، لن يكونوا أهم من عمرك، أو أحبابك، أو جديد علاقاتك، وعلى الأقل.. لن تملك قلوبهم أو اختياراتهم، فلا داعي لضياع وقتك لأجلها وهي تلتفت بعيدًا عنك وتحفل بغيرك أكثر منك.
وفي اللحظات التي ينعم الله بها على الإنسان بعمل يرتاح فيه، وعلاقة رائعة بوالديه، وولدٍ يضمه إلى صدره، وزوجة تؤنس أيامه، وأصدقاء جدد أو قدماء تَجَدَّدَ بهم العهد، وتَكثر مجالس الرجال التي يَأنس لها وتتنوع في يومه وليلته؛ سيَعرف وقتها أن عاطفته كانت فوضوية، وأن توزيعه لها كان ظالمًا لنفسه.. وعمره.
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.