على هوامش معارض الكتاب.. انتبهت إلى ظاهرة بدأت بالبروز في السنوات الأخيرة، وهي بدورها ردٌّ على ظاهرةٍ أخرى برزت كذلك في السنوات الأخيرة، وقد كتبتها على هامش أحداث معرض الكويت الدولي للكتاب، والذي كشف لي أن الأحداث الفكرية والمفتعلة أحيانًا.. متشابهة بيننا.
أعني بها ظاهرة: السخرية من المؤلفين الصغار في السن، التي أعقبت ظاهرة تيسّر النشر لبعض هؤلاء الشباب الصغار، وإبرازِهِم ومؤلفاتِهِم في معارض الكتاب والاحتفاء بهم في الإعلام وبعض صفحات التواصل منذ مذكرات طالب ثانوي قبل عشر سنوات والتي كانت الدعاية لها والنفخ فيها في ذلك الوقت يهدف بوضوح مستفز قص شريط مرحلة جديدة، وقد حصل.
لا شك أن جزءًا كبيرًا من اهتمام الناس وتركيز الإعلام بسبب أعمارهم، فالاهتمام والدهشة هنا طبيعي ومتوقع، لأن بعض هؤلاء المحتفى بهم دون العشرين من أعمارهم.
لكن الذي حصل أن الناس تفرقوا في آرائهم حول هؤلاء ومؤلفاتهم.
فمنهم من يرى أن الدفع بهؤلاء، مع بساطة ما يكتبون.. مساهمة في تسخيف المجتمع، وإشاعة التفاهة في الأجيال الجديدة، وأن هؤلاء في سنّ صغيرةٍ على الإنتاج والبذل المعرفي والإبداع، فخليق بمن هو في مثل أعمارهم أن يقضي وقته الذي أضاعه في كتابة ما لن يخلد أو يضيف شيئًا.. في طلب العلم والمعرفة؛ لأنهم في مرحلة التأسيس، فكيف يتم تصديرهم في زمرة العلماء والأدباء والمفكرين؟! نحن بهذا الأسلوب نخدعهم ونجني على مستقبلهم؛ لأنّ هذا الاحتفاء يرسل لهم معنى قاتلًا لأمثالهم، وهو أنهم علموا، وقد قيل: «لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل»، وهذا مضرّ بطلبة العلم ورجاله، فكيف بشباب ما أسرع ما يغرّهم الاحتفاء، أما التمثيل بنماذج لعظماء بذلوا في سنّ صغيرة ما نفع وخلد، فهذه تمثيل ساقط بمقارنة التأسيس العلمي لتلك النماذج بالتأسيس العلمي لهؤلاء الشباب.
ومنهم من تجاوز في النقد إلى السخرية الشديدة والجارحة بهؤلاء، ولم تقع هذه السخرية مني موقع المفاجأة، لأنها سِمَة لمواقع التواصل.. ونعتٌ ملازمٌ لوسوم تويتر على الخصوص، ويأخذ طابع النكتة الشعبية، أكثر من كونه رأيًا، فغالب من سخر بهؤلاء الأولاد إنما يتخذ السخرية والنكتة نهجًا في مواقع التواصل على أي شيء، فقد أوقفوا أنفسهم وحساباتهم لهذا القصد، وينتظرون أي حدثٍ كي يقابلوه بأنواع من التهكّم، لا يهم أكان سياسيًا أو رياضيًا أو ثقافيًا، وقد دخل في هذه الفئة عقلاء ومثقفين وطلبة علم لدوافع نبيلة -نحسبهم كذلك- وغيرةً على جناب التأليف.
ومن الناس من يخالف هذا الرأي، وبالضدِّ تتميّز الأشياء، فرأي الموافقين يوضّح رأي هؤلاء، وعلى أية حال، خلاصة ما يرون أنّ هؤلاء الأولاد تعبوا وألفوا واجتهدوا، فمن حقهم أن يتاح لهم الفرصة ويحتفى بهم وبتعبهم ويُشجّعون، والكتاب وسيلة حالها كحال وسائل النشر الحالية، لا يشترط أن يسوّد فيها من بلغ مبلغًا مقبولًا في العلم.. إلخ هذا الكلام.
* * *
قرأت لأنيس منصور في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام) نقلًا عن الأديب المعروف عباس العقاد أنه يقول عن سبب كتابته لبعض مؤلفاته: «إنه أراد أن يعرف حدود قدرته العقلية»(1). وهذا الرد عجيب، فهو يرى أن الكتابة والنشر وسيلة من وسائل معرفة الشخص لقدرته، وتقييمه لها، كما يقول أحد الأدباء: لابد من أن يكون هناك أناس آخرون، نعرف بهم أبعادنا طولًا وعرضًا وعمقًا.
إذن.. إن تعاملنا مع النشر بأنه وسيلة للتقويم، وليس مجرد وسيلة للتعليم؛ فمن حقّ هؤلاء أن يتخذوها لتجربة أنفسهم ومعرفة حدود قدرتهم العقلية والعلمية بالنظر إلى انطباع الناس وردودهم على مؤلفاتهم، مع ملاحظة ما يلي:
أولًا: الثقة بالنفس إلى درجة التأليف والنشر (ولا شك أنها خطوة مهمة في حياة أي إنسان) أقول: هذه الثقة بالنفس يجب أن تكون متلبسةً بالتواضع، ومعرفة قدر النفس، فهذا الخليط الأخلاقي السامي يحميك من صفات دنيئة ومحطمة لحياة الشاب المقبل على الحياة كالتعالم وطلب التصدّر والتعجل والانشغال بما يصرف عن الإخلاص.. ونحوها، فهذه الأمور مُهلكة ومُحرقة، تلقي الإنسان في مواضع من الحياة لا يتمناها المرء لعدوّه.
ثانيًا: قيل في الحكم: «إذا أردت أن تكتب صفحة، فاقرأ ألف صفحة»، وإذا أردت أن تؤلف كتابًا فادرس ألف كتاب، مبالغة.. لكني أعتقد أن المعنى والمقصدَ واضحان، وفي مقال بعنوان (التصنيف التحصيلي)(2)، شرح خلاله الكاتب هذا المصطلح عبر اتخاذ الإمام المعروف يحيى بن شرف النووي رحمه الله تعالى، والذي كان يَتعجب منه كل مطّلع على سيرته؛ لقِصَر العمر الذي عاشه في هذه الحياة، فهو بدأ بالتعلم دون العشرين من عمره، وتوفي رحمه الله تعالى في سن الخامسة والأربعين، أي أنه طلب العلم وألف في خمس وعشرين سنة، وهذه المدة القصيرة نادرة جدًا في تاريخ العلماء المنتجين إذا علمت أن مؤلفاته بلغت أربعين مؤلَّفًا، أحدها بلغت مجلداته أربعة وعشرين جزءًا، وغالب هذه المؤلفات صارت مراجع في علوم تخصصية كالحديث والفقه واللغة العربية، كما ذكر الكاتب.
والسبب في ذلك أن الإمام النووي كان يجعل (تصنيفه تحصيلًا، وتحصيله تصنيفًا) وهذا التفسير البارع نقله الكاتب عن أحد العلماء، ثم لخص معناه بقوله (التأليف بهدف التعلم)، أي أن القارئ يطلع على ما كتبتَ فيقتنع تمامًا أن المؤلف تعب وتعلم ويسلك طريقًا حدّده بوضوح ثم أنتج وألف ولمّا يزل ماشيًا فيه، فحين تقرأ ما ألفه وكتبه تتيقن أنّه نابعٌ من معاناة التعلم والتأمل.. والمجاهدة.
وهذا النهج فيه احترامٌ لذات الكاتب، وتقديرٌ لأوقات القراء وعقولهم، أما أن يؤلف أحدهم كتابًا دون اطلاع، أو دراسة، أو قراءة، وإنما اكتفى بأنه كان يكتب على الشبكة منذ سنوات، فهذا سخرية بالناس، ومضيعة لأوقاتهم، فالكتابة مجرد أداة، قد تعرض عبرها (جهلك) بأسلوب مميز! وإتقان مهارة الكتابة قد ينتج مبدعًا للتذوق الأدبي، لكن لا ينتج معلمًا ولا متخصصًا ولا باحثًا.
ثالثًا: للمعترضين على هؤلاء، يقول الله عز وجل: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال}.
لندع الفرصة لهؤلاء الشباب، ما داموا لم يتجاوزوا الحدود الشرعية والأخلاقية، وما دامت وسائل النصح والردّ والتعليق في متناول اليد، وما دمنا نتيقن تمامًا أن ما كتبوه يتدفق حبره في عوالم الحلال والمباح الواسعة، هذا حقٌ لهم، والحكمُ على ما نشروه تفعّله الأيام، فإما أن يكون متقنًا.. فيبقى، وإما أن يكون تافهًا فينسى، وإن ضُجّ به ساعة من الزمان، وكم ردّ العلماء والأدباء على مؤلفّات ورجالٍ لم يعد لهم ولا لمؤلفاتهم ذكر واحتفاء.
كما أنه حريّ بنا إدراك أن مجرّد إصدار الكتاب من صغيرٍ في السن، ليس تعالمًا ولا تصدّرًا، فالتعالم والتصدر معناهما معروف، ومرتبط بالمكتوب لا بالكاتب، ولا علاقة له بالسنّ في الأصل، كما أن نشر مؤلفات في النثر والشعر والإبداع الأدبي بالعموم لا علاقة له بالتعالم ولا بالتصدر، لأن تقييم هذا النوع من النشر ذوقي، ما دام لم يهمل أدوات الكتابة الأساسية.
_______________________________________
(1) في صالون العقاد كانت لنا أيام، أنيس منصور، ص 218.
(2) المقال منتشر في الانترنت ويسهل الوصول له عبر البحث.
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.