تصدر في هذه الأيام مع انطلاق معرض الكتاب 1438هـ - 2017م في مدينة الرياض ما يتعارف على أن يسمى (باكورة الأعمال) أي: أولها، ولا أدري عن امتداد العمر، أو ارتفاع الهمّة، أو وجود القدرة، في إتباع هذا الأول بثانٍ أو ثالث.. الله وحده يعلم وهو الموفق والمعين.
رواية رهاب كتبتها قصّة قصيرة جدًا عن معاناة الشاب إياس، ثم نشرتها في هذه المدوّنة قبل قرابة السنتين، وسبب كتابتي لها هو سلامٌ عابرٌ حصل أمامي ولفت نظري كثيرًا بين مراهقٍ ورجل أربعيني في محلّ داخل السوق القديم في مدينتي وغاليتي (رفحاء).
كانت تفاصيل ذلك السلام الملفتة تخلق موقفًا من المواقف التي يعرفها الكتاب جيدًا إذ يسابقك طيفها نحو حاسوبك لتنطلق بالتعبير عنها بسرعةٍ لا تحتمل التأني في رصف الكلام وتنوّق كرائم اللفظ، فأصابعك تتزاحم وتكاد تتعارك في لوحة المفاتيح، والأفكار تفيض وتندفع حتى تختلط روافدها.
وبعد نشرها هاتفني الصديق الأثير مشعل الحربي (أديبٌ وإن تخفّى وناقدٌ وإن أخافني!) مثنيًا ومشجعًا وملاحظًا كعادته الطيبة والصادقة، وقال لسبب واضح لديه: لديك المزيد عن هذا الموضوع كما يبدو، فلماذا لا تكون هذه القصّة رواية أو مجموعة قصصية؟
يرجع اهتمامي بموضوع الرهاب الاجتماعي وتصوري لآثاره وأعراضه لأسباب متراكمة، أذكر هنا ما يصحّ نشره:
أما السبب الأول، فهو هواية غريبة في وقتها، استهوتني في صيف 1427هـ/2006م، واستمرت سنوات قليلة، ثم انقطعت عنها مللًا من التكرار، قبل أن أهتم بكتابة رواية عنها، وهي إدمان قراءة صفحات الاستشارات في المواقع والمنتديات التي كانت (ولا زال قليلٌ منها) وسيطًا بين الجمهور المتعطش للاستشارات وبين مختصين وعلماء تم انتقاءهم حسب موضوعات الاستشارات المرتبطة بتخصصاتهم، كالاستشارات الطبية، والنفسية، والدعوية، والتربوية، والثقافية.. وغيرها.
فكنت أطالعها، وأطبع بعضها لأعيد قراءتها، مع تنوّع في موضوعاتها حتى بدأت تميل نفسي مع مرّ الأيام إلى ما يرتبط بالاستشارات النفسية حتى استهوتني فقرأت أرشيفها وتتبعت جديدها مدّة لا بأس بها جعلتني أفهم كثيرًا من عقد هذا التخصص العجيب، وأتفهم الكثير (الكثير!) من خلال الأسئلة التي ترد ولو لم أقرأ أجوبتها، فالأسئلة في الاستشارات تأتي لك بالحياة دون أقنعة وإن تخفى أصحابها، أما الإجابات فهي أفعال ومواساة وتوجيه تلحظ تكرار أساليبه وأوامره واقتراحاته بعد طول قراءة وتأمل، فهي لا تتجاوز خطوطًا عريضة جعلتني أتفهم كيف استطاع بعض أصحاب الشهادات المزورة من الأطباء ممارسة احتيالهم دون كشفهم مدة طويلة.
والسبب الثاني، هو عملي كمعلّم، إن المعلم يقابل في كل يوم مالا يقل عن ثمانين طالبًا وُزعوا على فصولهم بترتيب يسهل فيه تمييز الطلاب ومعرفة أسمائهم ومع مرور الأسابيع الدراسية تبدأ شخصياتهم بالبروز والفروقات بينهم بالانكشاف، ويطفو ما في قاع نفوسهم على سطوح حواسهم ولحن قولهم وصريحه، فتبدأ تتعرف عليهم، ثم تعلمهم، ثم تشعر بهم.. إذا كنت عطوفًا بما فيه الكفاية.
بعدها، ستشعر بتلك الأعراض البادية على ملامح بعض الطلاب وتصرفاتهم، ذلك الانتماء لزوايا الفصل، بحثًا عن احتضان المكان، وتلك المحاولات للتخفي خلف ظهور زملائهم بعد أن يتنقل المعلم بعينيه بين الطلاب بحثًا عن مشاركٍ ومجيب، ثم تلك الصدمة وما يتلوها من تلعثم وتعرق وتورّد حين تشير إليهم أو تطالبهم بالوقوف للإنصات لهم، فضلًا عن شدّة الارتباك والحصر حين تطلب منهم تكرار ما قالوا ورَفْعُ صوتهم به؛ لأنك لم تسمع ذلك الهمس المرتعش المبحوح الذي نطقوا به، إن ارتقى لكونه نطقًا!
لا أحتاج إلى اعتراض يذكرني بكوني لست متخصصًا لتصنيف هذه الأعراض إلى (مرض) أو (حالة)، لكنّها موجودة، والوجود يستدعي -عند أهل الوعي- الانتباه والفحص، لكنّ المعلم والمرشد أو أي واعٍ بما يجري غالبًا ما يضربون أخماسًا بأسداس قبل أن يخطو أحدهم نحو المجتمع الذي ائتمنك على هؤلاء، وأيّ مرشدٍ أو معلّم يتجرأ بأن يقول لولي أمر الطالب في مجتمعنا أن ابنك يحتمل إصابته بمرض الرهاب أو الاكتئاب ويفضل فحصه عند أخصائي؟!! إن مجرد تخيّل ذلك يبعث على الارتباك، لذا كان الهدف الواضح من الرواية -كما أتمنى- هو إخراج هذه الأعراض من النقط العمياء في أبصار من يطالعها من أفراد المجتمع.. وبصيرتهم.
إنّ الرهاب مغناطيس يجذب التنمّر والظلم والهوان، كما أنه تيار داخلي يسحب إليه أمراضًا أخرى تزيد شأنه تعقيدًا وأمره خطورة، كالاكتئاب وغيره، فهو ككرة الثلج تتضخم كلما انحدرت وتزداد انحدارًا كلما تضخمت حتى تسرع إلى الهاوية.
هي مواقف -قد يحتقرها المجتمع- تصنع مخاوفًا تكون كالندوب في روح وبال الطفل والمراهق، فتجيء مواقف أخرى تجدد جرحها فيثعب هلعًا ويتسع ليكون الجرح كل مرة أعمق غورًا وأشدّ ألمًا، وقد حان الوقت الذي يترفع فيه المتعلمون من أولياء الأسر وأرباب البيوت عن الأحكام الهمجية المتخلفة التي تختصر هذه الأعراض والحالات بكونها ضربًا من الجنون أو قلّة الرجولة أو نقصًا في الاعتزاز والأخلاق، فيُلام الطفل والمراهق بناء على هذه النظرات الكسولة الجاهلة، ويُراد تقويمهم بالأوامر المباشرة أو الضغط النفسي بقناع تربوي أو ربما الضرب والإهانة، فيقع هؤلاء المساكين بين مطرقة الجهل وسندان المرض، فتزداد الضغوط وتكثر المشاكل وتتسع المعاناة فلا ينتج من ذلك إلا التعجل بانهيارهم الذي لا ينفع بعده الندم.. ولا الوعي المتأخر.
أما السبب الثالث، فمع تجدد وسائل البحث من جوجل إلى أدوات البحث في مواقع التواصل الاجتماعي، لك أن تكتب الكلمات التالية في محركات البحث المتنوعة كما كنت أصنع بين فترة وأخرى: رهاب - #رهاب – رهاب اجتماعي – فوبيا اجتماعية – العزلة - الوحدة ... ثم انظر لفضفضة المقّنعين بالأسماء المستعارة وشكواهم على اختلاف أعمارهم ومجتمعاتهم، وأنينهم المكتوم في واقعهم والمنطلق في المواقع علّ هذا البث يخفف ما يحتقن في دواخلهم.
كان مؤلمًا للغاية ومبكيًا أحيانًا ما عرّضتُ له شخصية الرواية مما قد يعتبره الإنسان الصحيح المعافى مبالغة، لكنه ضروري، لأنه ما يجري، والواقع لن يجامل روتين المنعم عليهم بالمعافاة، أزعم في رجاء أنّه لو اطلع أخصائي نفسي على الرواية لخرج منها بتشخيص واضح بأن هذا الشاب يعاني من هذا المرض منذ مدة طويلة، وأنّ الأمر معه تجاوز مجرد الاكتفاء بجلسات الحديث والنصح، بل لا بدّ من علاجٍ سريري ودوائي طويل الأمد لما تراكم وتطوّر معه بالإضافة إلى معاناة الرهاب.
كما أنني في شوق للملاحظات النقدية الجادة في موقع goodreads على سبيل المثال، فأنا أشبه نفسي بمن يدخل سوق الأسهم وهو واع كل الوعي بخطورته، ومثل هذا الاستيعاب يجعلك تتوقع أنواعًا من النقد.. بالثناء أو بالثلب، تركت تعامل مشاعري معه لوقته، غير أنّ حكم الدار المحترمة بصلاحية النشر يعتبر من أوائل الأحكام الإيجابية التي تنمّي الثقة بما كتبته، وقد أفرحني كثيرًا تبنّيهم لها، مع أنني لم أتوقعه، لدينا موهبة عظيمة في إساءة الظن بمواهبنا، وقد قضيت ستة أشهر في كتابتها، ومثلها في مراجعتها، ومثلهما تقريبًا في إساءة الظن بها، لذا كانت الموافقة على نشرها من أوّل مراسلة مدعاة لمراجعة النفس حول هذا التردد والوسواس.
أسأل الله أن يتقبلها، وينفع بها.
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.