قرأت قبل فترة كتاب (جلال أمين) الكاتب وعالم الاقتصاد المصري (ماذا علمتني الحياة) وكان سيكون دقيقًا في عنوانه لو سماه: (ماذا رأيت في الحياة؟).
ولفت نظري فيما كتب حديثه عن أخيه (حافظ) وشخصيته (الغريبة) بالنسبة للناس (الطبيعية)، وأعني بهذا الوصف الأخير بقية البشر الداخلين في سياق الحياة الاجتماعية والاستهلاكية والاستعراضية بلا لوحات تنبيه، يمثّلون صياغة الخَلق التي وصفها الله تعالى في شكلها الاعتيادي الخالي من التوقف والعمق والتأمل والحكمة والنظر في مآلات الأمور: تحب المال حبًا جما، تعتني بما يباهيها، ومستمرة على ذلك بلا توقف.
(حافظ) هذا شخص لا يغريه المال، ولا الكماليات، ولا السفر، قنوعٌ في كثير من أمور الحياة، إلا في أمر هوايات له كان طموحه فيها عاليًا، فقام بتطويرها والعناية بها ثم لما بلغ فيها مرحلة يرتضيها ورأى رضى المقربين منه عنها (ومنهم جلال أمين نفسه)؛ سعى ليأخذ حقه المفترض من الحياة كغيره من الناس.
يقول جلال أمين: (كان أكثر ما يجلب له السرور والرضا عن نفسه تأليف المسرحيات. وربما كان هذا هو الشيء الوحيد الذي كان حريصًا على أن يحصل فيه على رضا الناس عنه واعترافهم به. وكان يتمتع بالفعل بالقدرة على كتابة حوار مقنع ومؤثر، وأن يحوّل القص السردي لأي حادثة إلى حوار جذاب. وما أكثر ما كتب من مسرحيات، قصيرة وطويلة، مؤلفة ومترجمة، وما أكثر ما أرسل منها لهذه الفرقة المسرحية أو تلك، المشهور منها والمغمور، القومي والمحلي، ولمحطات الإذاعة والتلفزيون، وكان إلحاحه ومثابرته في هذا مما يستحق الإعجاب حقًا، إذ لم يكن ليصدّه أي رفض أو نقد عن هدفه وعن إعادة المحاولة من جديد. فإذا طلب منه إجراء تعديل على مسرحية كتبها؛ عكف على إجرائه مهما كان التعديل جذريًا وشاملًا، حتى يظفر بالموافقة على تمثيلها. ومع كل هذا فما أقل ما حظي به من نجاح في هذا الصدد. نعم، مُثّلت له بعض المسرحيات المترجمة وقامت بعض الفرق المحلّية الصغيرة بتمثيل مسرحية قصيرة له أو مسرحيتين، وعرفه واستمع له بعض المخرجين الكبار، ولكنه لم يظفر منهم بمساعدةٍ ذات شأن، وظلّ إلى أن مات لا يعرفه ككاتب مسرحي إلا عدد صغير جدًا من الناس، عدا أفراد أسرته).
ويكمل جلال أمين قصة أخيه: (ومع تكرار عجزه عن تحقيق النجاح الجماهيري الذي كان يعتقد اعتقادًا جازمًا أنه يستحقه ككاتب مسرحي، أصيب بخيبة أمل شديدة زادت قوتها مع مرور الزمن، وجعلت حديثه لا يكاد يدور، في سنواته الأخيرة، إلا حول هذا الموضوع: إمّا أن يشيد بقدراته ككاتب مسرحي إشادة فيها مبالغة غير مقبولة، أو ينتقد الكتّاب المسرحيين الناجحين انتقادات فيها أيضا قسوة غير مقبولة، فضلًا عن أن الدافع إلى هذه القسوة كان واضحًا للجميع..) ولعل جلال أمين يقصد بالوضوح في هذه الخاتمة أن أخاه كان يحسدهم.
قبل أن أصل إلى هذه الأسطر من كلام جلال أمين عن أخيه حافظ كنت أتصفح عبر الجوّال موقع التواصل الاجتماعي تويتر فرأيت أنينًا مكتومًا لأحد المغرّدين الذين لهم عناية بالكتب والمؤلفات ونشر اقتباسات مهمة ومنتقاة من شخصه وبنَفَسٍ متواصل غير منقطع ولا كسول يصف في بدايتها تغريدةً عاديّة يستطيع أن يعبّر أي طفل في المرحلة المتوسطة بمثلها لكنها مع ذلك نالت انتشارًا عجيبًا، فيقول: (أعاد تدويرها ٢٢ ألفًا! وهي لا تحوي معنىً نفيسًا أو سبكًا عاليًا ونحن نضع فوائد من بطون المجلدات وأمات الكتب ولا نجد لها هرولة ولا مشيًا)، وقد مرّ عليّ في تويتر عدّة أدباء ومفكرين صدر عنهم مثل هذا البث الذي لا يخفى عن قارئه مدى الألم وراءه.
* * *
في المرحلة الجامعية، في فترة من فترات العمل المسرحي الجامعي تعرفت فيها على شابٍ طموح للغاية، وكان اهتمام ذلك الشاب مطابقًا تمامًا لاهتمام شقيق جلال أمين (وإن اختلفت الوسائل)، وهو: كتابة المشاهد والحوارات والسيناريوهات. وكان في تلك الأوقات في مرحلة التعلّم والتدريب وشغف الشباب وحماسهم، وكان جادًا في سلوكه هذا الطريق غاية الجد، صارفًا وقته وجهده باحثًا ودارسًا مع قلّة اهتمام المحتوى العربي في الانترنت وقتها بموضوعات هذا الفن، وكان يحبّ النقاش في شأن هذا الفن مع زملاء لهم ذات الاهتمام، أو قريبًا منه (وقد كنت من هؤلاء الزملاء نوعًا ما)، وفي تلك الفترة كان طموحه وهدفه أن يصل ليكون كاتبًا بارزًا في الإعلام المحافظ، واستطاع الوصول لعدة أعمال مهتمة بهذا الجانب بعد سنوات قليلة، ومع سوء تلك التجربة احترافًا وتعاملًا كما أخبرني، وكما هو معروف عن هذا المجال للأسف، ومع أهميتها الكبيرة بالنسبة له على مستوى العلاقات الشخصية والمصلحية، إلا أنها لم توصله للهدف الذي حدده وكان واضحًا لديه وضوح الشمس، وهو أن يكون كاتبًا بارزًا تتسابق القنوات المحافظة ولجان المهرجانات لطلب أعماله الكتابية ومقابل أموال معقولة، ودون انقطاع طويل، مع إعطائه حقّه من مكاسب الشهرة المتوقعة: كاللقاءات المتلفزة، والاهتمام المتواصل، والاحترام.
وهموم الطموحين وأصحاب المواهب بين مجال الإعلام المحافظ وإغراءات الإعلام الآخر.. تحتاج لحديثٍ آخر، وقد ألمحت إلى بعض ما يعانون منه مع مواهبهم التي تفتقد للمحتضن النظيف في قصّة: [ مبتليكم بجمال ! ].
ثم تخرج قبلي وانتقل قبيل تخرجي لمدينة كبرى مناسبة لهذا النوع من الأنشطة، وسعى لإرضاء طموحه وقد اقتنع كما ظهر لي أنّه لن يخطو أول الخطوات في هذا المجال إلا بماله الخاص، وكان بيننا تواصل حينها، إذ طلب مني نصوصًا من أنشطتنا في الجامعة فأرسلتها له.. ثم انقطع التواصل بيننا، على أنّي صادفت حسابه يومًا ورأيته منشغلًا بعمل إعلامي شخصي وقتها، مع وجود الكثير (الكثير.. الكثير) من صورٍ يضعها يقول إنها لكواليس عملٍ قادم، لكني لم أر ذلك العمل واقعًا حين أتى ذلك الزمن القادم وصار حاضرًا.
وبعد زمنٍ صادفت له عملًا بسيطًا، نشره شخصيًا، موضوعه تربوي في عنوانه وظاهره، أمّا محتواه فلقطات بذيئة، كتبت له بعد رؤيتي لهذا العمل المقزز رسالة نصحٍ، لكنّي مسحتها، كيلا أندم عليها نَدم جلال أمين على زجره لأخيه حافظ في آخر عمره لكثرة احتجاجه على عدم إعطائه حقّه ككاتب.
وسبب مسحي له أن ذلك العمل مجرد سخط عابر على الحياة واعتراض على مآلات الحال.. وسيزول، وإن بدا له أنها بداية موفّقة لمرحلة عظيمة سيمحو ذنبها بأعمال أرقى فيما بعد، وهذا لن يحدث، لا وجود لهذه المرحلة العظيمة، كنت متأكدًا دون سبب واضح، هي مجرّد نزوة سيندم هو عليها بدون نصيحة.
لكن كم كان مثيرًا للشفقة أن أراه بعد نشر هذا العمل المخزي وهو يتجّول برابط الفيديو بين صفحات المشايخ والغيورين على أبسط المظاهر الأخلاقية والذوق العام واحدًا تلو الآخر لعل هذا العمل الركيك بتلميحاته الجنسية المنحطة سيثيرهم لينكروه، ويثيروا الغبار في المكان لينجلي عن فرس الشهرة تحته، لكنّه انجلى عن حمار التجاهل التام منهم، فمن بين مئات المراسلات و"المنشنات" التي قام بها؛ لم يحفل به واحد منهم لا بثناء ولا بنصح أو هجوم، وكنت أتأمّل هذا الأمر وأتعجب له كلّ العجب، وتحولت رسالة النصح التي كتبتها ومسحتها إلى تغريدة لم أصبر عن بثّها قلت فيها: (يثير الشفقة من يقدم قرابين الفساد ونزع الحياء والمروءة والأدب لصنم الشهرة في الانترنت دون فائدة، فلا اشتهر ولا حافظ على جهود أهله في تربيته!).
ثم خَفَت نشاطه، واختفى.
والنماذج المشابهة لـ(حافظ) والتي مرّت عليّ في حياتي كثيرة جدًا، وكنت أعتبر نفسي منهم (ولا زلت) قبل أن أحاول أن أعالج نفسي بالقناعة وتعداد النعم المقابلة لدواعي اليأس والقنوط التي لا بدّ من التلطخ بها في بعض الأوقات.
فقد كان اعتنائي بمواهبي وقدراتي، والسعي في إعطائها حقها من التدريب والدخول في (سوق عملها) إن صحّ التعبير يلتصق بها شعور متمكن من نفسي بأنّ الحياة والقدر والخالق سبحانه وتعالى مدينون لي بتحقيق مكتسبات هذه الصفقة، نعم.. هي صفقة، أعتني بها بموهبتي، وأطورها، ثم أسعى لنشرها في مواطن نشرها؛ فإذا نلت مدح المقرّبين ومن أثق بهم من المتخصصين.. فسأنتظر حينها المقابل لي.
إنّ قصّة هذا الصاحب (ومثله في قصص من عرفت أو زاملت أو تجربتي) كانت تبهرني كثيرًا؛ لأن التجربة تُبرز أوصالًا من خيوط القدر فتبدو ظاهرة أمامك ومتكتلة حتى تكاد تمسكها بيدك. وتظهر أمامك كتشجير العلوم بجذوعها وفروعها وأغصانها، وتستطيع من خلالها أن تحكم على مصير طموحك بكل ثقة، لولا أن الحظّ والصدف يمنعانك من هذا الحكم؛ لأنهما مفاجأة تغيّر السيناريو تماما.
* * *
رأيت قبل مدّة برنامجًا وثائقيًا عن رائدة من رواد الحركة التجريدية في الرسم، لم يدر العالم عن ريادتها إلا بعد أن بلغت من العمر عتيا، فالحركة التجريدية ظهرت واشتهرت على أيدي رواد برزوا في الأربعينيات والخمسينيات في فرنسا خصوصًا، ولم يدر العالم عن هذه المرأة إلا في عام 2000، بعد 60 سنة من بروز هذه المدرسة وإعطاء روادها حقهم من الشهرة والمال والاعتناء والتقييد الكتابي والوثائقي لمنجزاتهم وتاريخهم وبيئتهم خلال ستة عقود، فلما بلغ عمرها 85 سنة وهي تعيش في حال رثّة بعد وفاة زوجها وعدم إنجابها للأولاد انتقلت لإحدى الدور البائسة المخصصة لمن هم في سنها، وبسبب انسحابٍ طارئ لأحد الرسّامين المشهورين عن معرض دوليٍّ كبير مقام في إحدى المعارض العريقة في نيويورك، اقترح أحد جيرانها اسمها على صاحب المعرض الذي لم يكن قد سمع بها قبل ذلك مع اهتمامه بالفن واختصاصه بمعارضه، لكنّه كان متورطًا للغاية فوافق على استضافة لوحاتها المحفوظة بعناية قليلة في مستودع صغير بشقتها، وحين وقعت عينه على نتاجها صُدم به وذهل، فاحتشدت الصحف بعد ذلك لنشر اسمها في الصفحات الرئيسية وبالعناوين الكبيرة كاكتشافٍ عظيم (بهذا الوصف تمامًا)، ولم تنقطع عنها الشهرة منذ ذلك الوقت وحتى اليوم الذي تبلغ فيه سنّ الواحد بعد المائة.
وفي لقاء لها قالت أنها كانت تتمنى نيلها لحقها من الشهرة والتقدير والاحتفاء قبل هذه المرحلة من عمرها بعقود، لتسعد بها مع زوجها في شبابهما.
ثم أضافت: (لدينا مثل يقول: إذا انتظرت الحافلة، فإنها ستصل حتمًا).
حين سمعت هذه الجملة منها تأثّرت بها كثيرًا، ولكن بعد زوال الأجواء الدرامية للوثائقي، والتي أحاطت بهذه المقولة، بالإضافة إلى ملامح الشيخوخة التي تخدع سمعك أحيانًا فتظن أن كل ما يخرج من صاحبها حكمة وصواب؛ صرت أكثر وعيًا بمعناها، وأنّها خدعة ينخدع بها من وصلت له الحافلة، فيظنها قدرٌ حتمي لمن ينتظر بعده، ولا لوم كبير عليها، فهي منبهرة بالحاضر الجميل، فجعلت من حياتها بظروفها الخاصة وصدفها النادرة شاهدًا على صدق هذا المثل.. فاستعانت به.
* * *
أعتقد أن أبلغ قناعة وصلت إليها مع اعترافي بكوني لا زلت في بداية الطريق، قريبًا من منتصفه المفترض، ومررت ببعض الفشل، وبعض النجاح، فلستُ ناصحًا مثاليًا، ولا حكيمًا، ولعلّي لم آت بجديد هنا.
أقول: أعتقد أن أبلغ قناعة وصلت إليها هي أنّ الحياة ليست عادلة دائمًا، وأنك قد تنتظر حافلة الدنيا بزينتها وخيرها، فتموتُ وهي لم تصل، ولعلها تصل لكنها تتجاوزك، وربما تدعسك. وأعتقد أنّه يكفي الإنسان من الحياة على الأقل (شرف المحاولة دون انقطاع) وأنّ العدل الذي تتوقّعه من الحياة بعد أن بذلتَ فيها وكابدت المجد وألقيت دونه الأُزُر، وما تحمله لك من مكافآت حسب ظنك، حتى لو وصلت بها إليك، فلا يشترط أن يكون بالحجم الذي تخيلته واشترطته في نفسك، فربما تكون من فئة (الأبعاض)، نصيبهم من كل شيء في هذه الحياة.. البعض، بعض شهرة، وبعض امتنان، وبعض تقدير.. إلخ، وربما لن تجد هذا (البعض) أيضًا، كما لا يلزم أن يكون ما حزته من هذه الحياة دائمًا، ثم حتى لو كان كما تخيلته، وكان فوق ذلك دائم الوفرة في حياتك.. فلا يلزم أن تكون سعيدًا به طوال الوقت، ولا أن تشعر بالرضا المتواصل بحصولها، بل العادة قد تُبهت بريقه فيخبو، والنفس ملولة.
الحياة ليست عادلة دائمًا، الحافلة قد تصل وقد لا تصل.. لا أحد يعلم، يكفيك شرف المحاولة المستمرة، ومن يدري فربما تصل الحافلة بعدك فتأخذ أثرك، وكم من العظماء الذين برزوا في علوم وفنون، ثم ماتوا ولم يروا مقابلًا لجهودهم في هذه الدنيا؛ بل رحلوا عن الحياة مظلومين لم يكفهم الناس شرّهم ولا الدنيا بؤسها، والموفّق من عالج النيّة، لكي لا تفوته مكافآت الحياة الأخرى على الأقل، وهي الأكثر والأبقى.
بل إني أتيقن تمامًا بوجود عظماء ومشاهير غادروا الدنيا ولم يُعرفوا إلى هذه اللحظة، وخبت أعمالهم كما خبا ذكرهم، وتجاهلهم القرن العشرين الذي أظهر غيرهم من الأخفياء، فليس لهم ذلك الصديق الذي له علاقة بمدير معرض شهير في نيويورك، ولم يعمّروا عمر تلك المرأة فتزيد فرص شهرتهم مع زيادة أعمارهم.
وربما يكفي من هذه الحياة لمن حرم (الفضل) بعضه أو غالبه أو ما يتمناه منه، أن تتوزع فيها غايات مختلفة تضطلع بمسؤوليتها بديمومة الصابرين، لتحقق -بالحدّ الأدنى الذي يضمنه العمل بسنن الله في الحياة- ما تستحقه.
إن الإنسان في استطاعته أن يتفرس -في العموم- مصيره القريب القادم في المرض والزواج والوظائف.. إلخ، وأرى أن النجاح داخلٌ في ذلك، واللبيب من يستطيع أن يدرك وقت التحول من قدر (المجاهدة) إلى قدر (الرضا) و(القناعة).
وربما يكفي من هذه الحياة لمن حرم (الفضل) بعضه أو غالبه أو ما يتمناه منه، أن تتوزع فيها غايات مختلفة تضطلع بمسؤوليتها بديمومة الصابرين، لتحقق -بالحدّ الأدنى الذي يضمنه العمل بسنن الله في الحياة- ما تستحقه.
إن الإنسان في استطاعته أن يتفرس -في العموم- مصيره القريب القادم في المرض والزواج والوظائف.. إلخ، وأرى أن النجاح داخلٌ في ذلك، واللبيب من يستطيع أن يدرك وقت التحول من قدر (المجاهدة) إلى قدر (الرضا) و(القناعة).
فالحياة الدنيا ليست عادلة أبدًا، ولولا أن القدَر عظيم القدْر في نفس المؤمن لقلت أنّ للقدر عينٌ لها -بأمر الله وقدرته- نقاطٌ عمياء كما لعيوننا نقاط عمياء، تحرم الإنسان من الفضل، وزوايا لا يمكن إدراكها، وأنّ فئة من البشر مهما بذلت وأبدعت وواصلت ذلك دون انقطاع فإنها قابعة في ذلك المجال الأعمى الذي لا يمكن أن تراه فيه عين القدر المكافِأة أبدًا، وكم من قارئٍ نهمٍ يخرج علينا متأثّرًا ليعلن بأنّه قد قرأ كتابًا عَجبًا وأنه يستغرب أشدّ الاستغراب من كون الكتاب وصاحبه لم يبلغا من الشهرة الدرجة التي يستحقانها، ويخبرك أن صاحب الكتاب مات مجهولًا لا يعرفه إلا المتخصصون والمتوسعون في قراءاتهم، ما أكثر ما يمرّ عليك مثل هذا في مواقع التواصل، وكل ذلك تستوحيه من بعض النصوص (ذهب أهل الدثور بالأجور!) (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
والأمثلة على النقطة العمياء التي ذكرتها كثيرة، فقد مرّ علي قبل سنوات برنامجٌ في اليوتيوب بداية نشاط العرب فيه وكان أول برنامج خليجي -حسب علمي- من نوعه على يوتيوب، وقلده كثيرون بلغوا مبلغًا عظيمًا من الشهرة والمكانة، وكان البرنامج متكاملًا للغاية في فكرته وكوميديًا من بدايته لخاتمته، والمذيع لا تنقصه لا الطرافة ولا خفّة الدم ولا الكاريزما، وإخراجه كان احترافيًا ومميزًا، ومع ذلك، فمع استمراره فترة طويلة من الزمن، ومع تكامل مقومات نجاحه، إلا أنّه وصل لحدٍ معيّن من النجاح لم يستطع مطلقًا أن يتجاوزه، وكنت أقرأ في التعليقات على حلقاته استغرابًا متكررًا من الناس، وتساؤلًا ملحًا عن عدم بلوغ البرنامج ذلك النجاح الذي بلغته برامج يوتيوب مشابهة جاءت بعده وليست بأكثر منه جودة ولا فكرة ولا كوميديا، وكنت ألحظ بوضوح الاستغراب الكبير عند كثير من المعلقين والمتابعين، قبل أن ينقطع البرنامج.
ووقعت في اليوتيوب كذلك على برنامجٍ سخيفٍ ومستفزٍ وقبيحٍ، مع تميزه في الإخراج واستمراره دون انقطاع، لكنّ أسلوب عرضِ مقدّمهِ كان خارج حدود اللباقة ومتجاوزًا لأبسط القيم الأخلاقية، وكان من الواضح أن صاحبه بشكله وأسلوبه ومبالغاته يقصد إلى الشهرة عن طريق الاستفزاز بشكل صريح أو بأسلوب غير مباشر أحيانًا، ومع جهده العجيب والغريب وجَلَده المتواصل منذ 7 سنوات وحتى اليوم، ومع تكاليفه المادية الباهظة كما يظهر من نشاطه، إلا أنه لم يبلغ 1% من مظاهر الشهرة التي تتميز بها قنوات أخرى في يوتيوب جاءت بعده، لا من حيث عدد المتابعين، ولا التفاعل، ولا الحماس في التعليقات سبًا أو مدحًا، وفي المقابل.. رأيت من يقوم بمثل أسلوبه المستفز، وبأقل جهد مادي، وبظهورٍ منقطع، واحترافيّة أقل بكثير، مع قلّة حرص، وتأخرٍ في استخدام هذه الوسائل.. ومع ذلك ترى غوغاء الناس يحتشدون عنده، ويتفاعلون معه سلبًا أو إيجابًا، فوصلوا بأقل جهد ودون معونة أو علاقة من أحد إلى أضعاف أضعاف ما كان يتمناه الأوّل ودفق لأجله كلّ كرامة وخلق، ودفع في سبيله الغالي والنفيس.
ما يغيظ في هذا الأمر، أن الكثير من سنن الحياة لها ما يشبه القانون الواضح، والتفسير الجلي، لكنّ بعض مواقف الحياة وتجاربها لا تستطيع أن تقنّنها بمصطلحات واضحة يصحّ قياس الأحداث المختلفة على معانيها الثابتة ومغزاها المستقر، وأقصى ما تستطيع في شأنها هو ضرب الأمثال وسرد القناعات في سياقات يسهل اتهام دوافعها.. كما صنعت في مقالي هذا، والذي يسهل اتهامه بكونه ناتج عن أزمةٍ أو إحباط عارض.
ولعل هذه القناعة مستقرة في نفوس الناس وإن لم يدركوها بتعبيراتهم وتأملاتهم.. لكنها هناك، ولو طرحناها دون تعقيد في مجالس الناس سأجزم بسرعة تأثرهم وتفاعلهم معها، وقد شكا صديق لي خسارة تجارية له (سبقَتْها محاولات باءت كلها بالفشل الذريع)، فقلت له في صياغة مطابقة لما ذكرته هنا: أنك تستطيع استشراف قدر الله عز وجل فيك، وأنك والتجارة لن تجتمعا أبدًا، بالنظر إلى تجربتك معها، فتجاربك أثبتت أنك لن تكون مطلقًا كأولئك الذين بدؤوا بمبلغ زهيد، وتطورت تجارتهم بذكاء ودون تعبٍ كبير.. واغتنوا، واستقرت تجارتهم، وصاروا بعدها يحكون عن وصول الحافلة، ويكذبون حول حتمية النجاح بعد الجهد، وأظن أن التجارب السابقة قد تجلّت عن طبيعة قدرك مع التجارة، وأنّك وإيّاها متنافران، وهذا -كما أرجو- استشراف بنيته على معطيات تجاربك، لا تخرّص ودخول في الغيبيات.
كانت ردّة فعل صاحبي وإطراقه ونظراته بعد كلامي شاهدًا على وجود هذا الهمّ في نفوس الناس وإن لم يعبّروا عنه، وقد يكون على شكل تساؤل مشروع: لقد صنعت كل ما صنعه فلان وعلّان، فلماذا فشلت مع عظيم جهدي، ونجح مع قلة جهوده؟
على أنّك وإن لم تستطع الخوض في تفاصيلها، فإنك تستطيع أن ترجعها إلى أصول كبرى تتسم بها هذه الدنيا، ويستحضرها كل البشر، فهي ناقصة.. وهذا من نقصها، وهي غدّارة.. وهذا من غدرها، وفيها الخير والشر.. وهذا من شرّها (حين يعاني من آثارها أهل الخير) ومن خيرها (حين تؤدِب أهل الشر والتفاهة وتحجّم من آثارهم السيئة).
وما وراء ذلك من أعماق وتفصيل، فلله الحكمة البالغة، هو خالقنا، وهو الفعّال لما يريد سبحانه.
لله درك من كاتب! أجدت وأفدت بسرد رائع يأخذ الألباب..
ردحذفتسلم أخي عبدالرحمن، أشكر لك ردك.
حذف