لطالما عُبّر عن المصلحة في الصداقة بمعانٍ تصطحب المال نموذجًا أصليًا شهيرًا وربما وحيدًا للمصلحة، وقد يُذكر الجمال في مرات قليلة كمصلحة أخرى أقل شهرة تدفع لإظهار الاهتمام والصداقة.
غير أن للمصلحة نماذج خفية، لا يلزم أن تكون بخِسّة النموذج الأصلي (المال) الذي يحصل مع سبق الإصرار والترصد، وإنما تظهر كدوافع غير واضحة للعلاقة، ينتج عنها إساءات كثيرة في الفهم بين أطراف هذه العلاقة، فيدفع طرفًا لظنها صداقة.. بينما الآخر يراها حبلًا رخوًا لا يشدّ شيئًا في نفسه ولا مانع من إلقائه في أيّ وقت.
الإشكال في سوء الفهم هذا أنه قد يطول، ويُصرف فيه من بعض أطراف العلاقة الطيبين ثمنان عظيمان لا يستحقهما إلا الصديق الصدوق، وهما: الوقت، والود.
* * *
من هذه النماذج الخفيّة التي قد يساء فيها فهم العلاقة، نموذج العلم والمعرفة، ها هنا أمكنة كثيرة ومتنوعة يجتمع فيها الناس، فتتشكل علاقات، وتُبنى صروح من خيالِ، تهوي عند انتهاء هذه المصلحة، فيكتشف من أساء الفهم أنّه كان في (زمالة علم)، ومجرد (ورشة) و(نشاط) استغرقا وقتًا طويلًا، نافعًا بلا شك، غير مدرك أنّ حدوده تقف عند هذه المنفعة المباركة، ليكتشف كذلك أنه حتى العلم على مكانته لا يمكن أن يدفع علاقة الزمالة والاحترام ونحوها لمراتب الصداقة فضلًا عن الخلّة، وإنما عفويّة الأخلاق النبيلة وتآلف الأرواح والبذل وشدّة الاهتمام.. والصدق.
سوء الفهم هذا يجعلك تأتي بزملاء العلم إلى أوقات الصداقة، وفي الحين الذي تظن أنك تضيف لبنة أخرى لبناء هذا الصرح العظيم (الصداقة)، فالقوم يرون أنهم يقضون وقتًا ممتعًا في فضول وقتهم وفضول اهتماماتهم وفضول مشاعرهم وفضول علاقاتهم.
الاهتمام المشترك يعزّز الصداقة، وقد يؤدي إليها بداية، لكنه لا يغذي ودّها، وليس أساسًا لها، ولا ضمانًا لاستمرارها وصدقها، ولا دليلًا على وجودها، بل قد يكون نوعًا من المصلحة المحمودة التي لا ينبغي أن تبالغ في حسن الظن بها، فهي مصلحة في نهاية الأمر، لها حدودها الضيقة المرتبطة بحجم الاهتمام ووقته.
الإدراك المبكر لهذا يضمن لك علاقات صحية تكون مصدرًا لسعادتك وأنسك لا همًا وكدرًا وضياعًا للوقت على مشاعر بائسة لا طائل منها؛ لأنك صنّفت كل علاقة في (ديوانها) الذي تنتمي إليه بحق (كما يعبر ابن الجوزي)، ونقلت هؤلاء إلى (جملة المعارف، وعاملتهم معاملة المعارف، فمن الغلط أن تعاتبهم) [صيد الخاطر].
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.