من كوميديا زماننا رد فعل الناس على متوالية التطور التي تؤمن نخب وشعوب في عصرنا على حتمية تسلسلها.
طبيعة القرن الماضي وشيء من مظاهر القرن السابق له، وتراكم خمسة قرون من الحداثة؛ جعلت الإنسان متيقنًا كل اليقين بأن العالم يتقدم ويتطور في كل المجالات، بلا عودة للوراء، ووافق ذلك تعلق البشرية بنظريات تُنسب للعلم وتدعم هذه النظرة للحياة، وصار الخيال، حتى الخيال، منساقًا لهذه الحالة.
(غدًا يجدون علاجًا للسرطان.. سنرى الإيدز يصير كالتهاب الحلق.. سنسكن المريخ.. سنعيش في مدن تحت الماء.. سيتكتل العالم إلى تحالفات موحدة.. التطور حالة حتمية، ويمكن تسميته تطورًا بالضرورة.. وداعًا أيها القابعون في الماضي) ملايين التوقعات لا تخرج عن الإيمان بحتمية التطور للأعلى.. للأمام.. نحو الفردوس الأرضي، والمدن الفاضلة، ومحاولة (اكتشاف) قانون التطور ومعادلته، أو على الأقل وصفه، وأقول (اكتشاف) لأنهم يرون أنه موجود حتمًا.
يصف ستيفان تسفايج في مذكراته (عالم الأمس) هذه النظرة قائلًا: «إن الثقة البالغة بأننا قد حصنّا كل الثغور التي قد يهاجمنا منها القدر قد انطوت على غرور خطر، فالمثالية الليبرالية في القرن التاسع عشر قد أقنعت الناس بأنهم ماضون في طريقٍ مستقيم مطّرد إلى أفضل العوالم. أما العصور السابقة التي شهدت حروبًا ومجاعات وثورات فقد استُنكرت كأزمنةٍ كان البشر فيها مفتقرين إلى النضج والتنوير، والآن لم يبق إلا بضعة عقود من الزمن حتى يزول آخر أثر للشرّ والعنف».
فإذا حصل أمر ما يصادم هذه النظرة، فغرت الأفواه وعمّ التوتر وانتشرت علامات الاستفهام وبدت ملامح القلق والدهشة مما يجري، ولسان الحال: (لم نتفق على ذلك أيها الكون!!)، وعاش الناس (صدمات العودة)، العودة للماضي، العودة لما يفترض أنه لن يعود.
من ذلك، في عالم السياسة، ما جرى بعد انتهاء ولاية أوباما، وصول أوباما للرئاسة كان بالنسبة للشعب الأمريكي، والمستغرقين في هذا النموذج من الشعوب الأخرى، حدثًا داعمًا لهذه المسيرة التطورية، وقد رأينا احتفالات فوزه في ولايته الأولى، وشتائم المستغرقين في نموذج الأقوى لبلدانهم وشعوبهم التي تخلفت عن هذا المشهد الحضاري، لقد حكم أمريكا رجل أسود، إذن.. لنستعرض تاريخ كفاحهم ومن تعاطف معهم من الأحرار، وليمضي بنا التطور الحتمي لتحكمنا امرأة بعد ذلك، فكان من سخرية الزمان أن تخسر امرأة شر خسارة وأذلّها أمام نموذج يرونه -حسب مبادئهم التي يرفعونها- متعصبًا ودنيئًا استخدم أكثر الأفكار عنصرية -متجهًا بهم عكس سير التاريخ كما عبّدوا طريقه في أذهانهم- للتسويق لنفسه.. وبنى انتصاره على أنقاضِ صرحٍ من خيال بناه غرور الإنسان المعاصر.
وكانت بعض أنقاض هذا الصرح قد هُدّت في وقتٍ قريب حين خرجت بريطانيا مبدئيًا من الاتحاد الأوروبي، وقد عايشنا ذهول الناس في تلك المرحلة مما يجري، ووقتها انتبهت لرسوخ هذه الفكرة عن تسلسل العالم نحو الأفضل والأكثر تطورًا في أذهان العالم، فأتى هذا الحدث الأوروبي ليبعثر الترتيب المثالي لسيناريوهات التقدم، لم يكن مفترضًا أن يحصل هذا ولا في أسوأ الكوابيس، وقد كان المحللون يستعينون بمثال الاتحاد الأوروبي في اقتباس النموذج الأمثل لحتمية ما سيكون عليه شكل العالم الاقتصادي والسياسي، وأن الدولة التي لا تدخل في كيان اتحادي اقتصادي وسياسي مع دول أخرى مقيّدة إلى القرن الماضي، وسيتجاوزها التاريخ، وتتخطاها الشعوب.
ثم رأينا ذهول العالم من اتجاه شعوب "العالم الحر!" لانتخاب المتعصبين وأحزابهم، بعد أن أعلن العالم بشكل غير مباشر التصدي لهذا الذنْب بعد هلاك هتلر، لم تصل الأمور لمستوى المناحة ودرجة التشاؤم اللتان برزتا في كتابات المحللين، لكنها بداية أمر ما بلا شك، وهذا الأمر ليس على طريق التطور المفترض في خلد إنسان العصر الحديث، ودرجة التشاؤم وصلت إلى توقّع متابعة العالم الحرّ للنموذج الصيني في مسألة الحزب الواحد.. مع المرونة الاقتصادية، وكل شيء محتمل في هذا العالم المجنون الذي لم يترك يومًا الأفكار والأديان المنحرفة والمتعصبة، لكنّه تمكيج بشعارات مختلفة تؤجل الصراعات الحتمية، وتخفي النوايا المظلمة في أي معركة عصرية، وكان دور تلك الشعارات هو وصول المؤمنين بالأفكار والأديان التي زعم العالم محاربتها عبر أفيون (العصر الحديث) من شعارات قومية وأفكار ثورية وأنظمة رأسمالية، وكل يومٍ نرى اندهاش العالم من تلاشي المكياج شيئًا فشيئًا لتظهر الملامح القديمة للمتعصبين، ولا يزال الزمان يحمل أخبار السوء وسياط الحقيقة للواهمين بعصرٍ إنساني وردي مزدهر يترك وراءه صراعات الماضي، ممن يظنون أن اجتماع صيني وروسي وأوروبي وأمريكي في مختبر أو محطة فضائية يفترض أن تقطع الحاضر والمستقبل عن التاريخ والانتماء ونواميس الكون والحياة.. ياللوهم!
ومن عالم السياسة إلى التقنية والانترنت.. فمن حتميات تطورها التي تواتر عليها أهلها في مجال التصميم والمواقع: التبسيط. كانت المواقع تتزخرف لزائرها في كل زاوية من زوايا الصفحة، وكانت الأيقونات صورًا كتابية أو رسومًا، فأُعلن أن عالم الشبكة يتجه للتبسيط بلا رجعة، ومن بقي على ديكورات ذاك الزمن تجاوزه الناس ولاموه وزجروه، فاكتفت المواقع بكثير من البياض ونصوصًا مبسطة تنتقل بك إلى صفحات أخرى أو يحدث الانتقال ضمن الصفحة الأساسية، لكن السنوات الأخيرة بدت تخون هذا العهد في التطور بعد تحديثات المواقع وجديد التطبيقات التي أعادت الزخرفة والتعقيد والفوضوية، وما الضجة التي صاحبت تحديثات فيسبوك المتعاقبة قبل سنوات ومن ثم سناب شات في الفترة الماضية وغيرها إلا مثال على أنّ السيناريو المتجذر في نفس إنسان هذا القرن والقرن الماضي عن حتمية تطور الأمور للأفضل.. ليس موجودًا في الواقع، وإنما فكرة جُمعت أحداث السنوات الماضية كدليل على صدقها، وكانت تلك السنوات وفيّة بحق لهذه الفكرة، لكن نقضها يحتاج لمزيد من الوقت حتى يدرك الناس أن السنوات الماضية كسنوات الشباب التي تجعل صاحبها لا يتخيل أنه سيتقدم في السن، وكسنوات الصحّة التي تحرمك من تصوّر المرض، فضلًا عن تمكنه منك يومًا ما، وكالحيّ الذي يرى الموت يتخطف الكائنات من حوله.. وهو الناجي الوحيد.. "دائمًا!"، فيُحسن -في غيبة وعيه- الظنّ بالحياة.. والموت.
وقد أحسن "مستهلكو" الشبكة الظن بهذا العالم الجديد حتى رأوا انتقال نجوم اليوتيوب إلى عالم التلفاز، وتبعثر أشهر كتاب المنتديات في الصحف، نعم.. انتقلوا من المستقبل إلى الماضي، ومن العصر الجديد.. إلى العصر البائد (كما هو مفترض!) فبدأت تظهر بعض التساؤلات منهم، والشماتة من رواد الصناعة القديمة، وكذا الأمر مع الكتب التي كان يفترض أن تزول، ولكن رأينا معارض الكتاب تزدهر، والمؤلفين الذين يصدرون أسفارهم في الكتب الورقية يزدادون، ودور النشر الفتية تنتشر، إذا غضضنا الطرف عن موضوع الجودة.
ولا شكّ عندي أن السنوات القليلة القادمة ستشهد تطورات مثيرة تصادم الحريّات التي عاش فيها رواد الانترنت خلال عقدين، وستتجه هذه التطورات للمزيد من القيود، وقد بدت بعض ملامحها في أنشطة وندوات وإعلان نوايا، بالإضافة إلى بعض القرارات الأمنية المرتبطة بعناوين التشهير ومداهمات الحقوق الفكرية ومطاردات ملاكها، ولعلّ الأحداث في هذا الجانب ستكون أشدّ ضراوة في الزمان القريب كسرًا لحتمية التطور في النفوس، ولنتذكر كيف كان تويتر وفيسبوك أركانًا يأوي إليها الناس ويعيّرون عبرها زمن الإعلام الواحد، وأعلنوا افتتاح مرحلةٍ جديدة أكثر حرية وسلطة للإنسان، وطبعًا.. مع استحضار أنها لبنة أخرى في بناء التطوّر العام، وكذا في مجانية الحصول على الخدمات والمنتجات عبر الانترنت بلا رقابة، لكن تأقلمت سلطات العالم مع هذه المرحلة الجديدة.. ولا زالت تتأقلم وتُؤقلم إدارات هذه المواقع معها، لتظهر ذات ملامح الشّدَهِ والحيرة في نفوس الناس، فمنهم من تصبّر.. ومنهم من ودّع هذا العالم متشائمًا ومحبطًا بعد سنوات ظنّ فيها أن مراحل الحرية تلك ستأتي بالمزيد من الحريات.. كسطرٍ في قصّة التطور المعاصر.
حتى في عالم الألعاب الإلكترونية، على عدم جديته، إلا أنه حصل تصادم ذوقي غريب جدًا مع سيناريو التطور المفترض، وهو التقدم لأجهزة أكثر تطورًا، وألعاب أكثر جمالًا وروعة.. وسيمضي العالم مع هذا التطور بكل سرور، حتى أنك لن تفرق واقعك عن لعبك.
ثم تأتيك لعبة بسيطة مثل ماين كرافت، تُظهر لك البكسلات الضخمة والمضلّعات القليلة والمدببة بكل وقاحة الدنيا، لتبرز تلك الملامح مرّة أخرى على الأجيال التي تابعت تطورات هذا العالم منذ الثمانينات وحتى اختفت تلك المربعات من الرؤية الواضحة وازدادت دقة وبهرجة، ومع ذلك تنصرف الأجيال الجديدة وبعض من خونة الأجيال الماضية عن تطورات هذا العالم ويتتبعون هذه اللعبة المنتمية فنيًا لعقود مضت ساخرين من سيناريو التقدم.
ومثل هذا التصادم الذوقي الغريب مع نموذج التطور نجده عند الذين يظهرون امتعاضهم من تطورات الألعاب الجماعية ذات الأفكار الخلابة والجمال في التصميم والتي انتهت إلى ألعاب تُظهر لك الحد الأدنى من الذوق الظاهر، ولك أن تقارن ألواح الرِّسك والمونوبولي وسلّم الأفعى، وتقاطيع أحجارها الجميلة، وبطاقاتها المتنوعة، بلوح "الشيش" الباهت، وخطواته البسيطة، ودبابيسه المكتبية.
وكذا الأمر مع الأجهزة الذكية وعودة ألعاب البعد الثاني بكل قوة عبرها، وتهديد عرش أجهزة الألعاب ليجعل هذا العالم الواسع مجرد ميزة جانبية وتطبيقًا آخر في جهاز جوّال!
* * *
إن فكرة التطوّر راسخة في خلد الإنسان المعاصر، لدرجة أن أحداث نهاية العالم التي يتوقعونها ويصورونها في رواياتهم وتحليلاتهم وشاشاتهم، وترى فيها العالم مدمرًا وفي فوضى، لا تخلو من التطور العظيم في الأسلحة والعلاج والسكن واللباس.. حتى في ظلّ توحش العالم!
فجاءت هذه الصدمات لتذهل الإنسان، والذهول يعقبه -عند الموفّقين- تأمّل ومراجعة، فقد عمّ الغرور إنسان الباطل فأمات الإله والأخلاق وهدم بيوت الطين على ما احتضنته، وكذا بعض أهل الحق، الذين جعلوا كلّ عَقدٍ من زمانهم أرضية لإسقاط قمم الحق والنصر.. عليه، ورأوا أنّ هذا التطور يجهّز لهم العلامات الكبرى، فعيسى عليه السلام، والمهدي، والخلافة على هدي النبوة، كانت تنتظر ولادتهم، وسنن الابتلاء والامتحان ستكون خفيفة عليهم، وربما يُستثنون منها، فسيعملون بطمأنينةٍ توصلهم إلى النصر القريب جدًا.. بسكينة.
إنّ العالم متجّه للرخص في الذوق، ونقص الذكاء العام، ما نتج عنه إنقاص مستويات النجاح التعليمي ولو بالتحايل كي تمضي هذه الأجيال إلى سوق العمل وتنال ضريبة ما يجري، وزادت سرعة هذا (اللاتجاه!) منذ 2007 حين ارتفعت سرعات النت في العالم.. وتغيّرت بنية المواقع والانترنت ووسائل وصوله للناس.. وظهرت الأجهزة الذكية وتطبيقاتها، وبدت آثار العزلة معها في الأجيال الفتية.
وقد كان هذا الأمر مُدرَكًا ومستوعبًا منذ الحرب العالمية الثانية، التي فتكت بالفلسفات التي تمظهرت بالمتانة والصلابة حينًا من الزمن، فبنوا عليها حضارتهم، أو ظنوا بالربط المغرور المتعالي على الوحي وتاريخ التوحيد أنهم قد صنعوا ذلك، لكن لم يتجاوز استيعابه مستوى الوصف الفلسفي، والتأوّه في البثّ الفني، والأنين في الأدب، حيث استوعب المتألمون انتقال البشرية مما ظنوه إشراق الحداثة، لدياجي ما بعدها.. لا تُرى آفاقهم.
ثم اكتشفوا أنّ لهذه المرحلة -التي تفتت فيها كل بناءهم الفلسفي- جانبًا سوداويًا مشوبًا بسخرية لاذعة مَحَت البهجة الطفولية لبشريات التطوّر، وهو أنّ كل هذا التطوير المعرفي والتقني لم يزد على أن جعل الإنسان بطلًا مأساويًا في مشهد عبثي بديكورٍ جميل ورائع، يفيد كل شيء في هذا المشهد، إلا الروح، والنفس، والعقل.
* * *
قديمًا، كان يعد البرامج التلفزيونية المخصصة للصغار والمراهقين فريق عمل من الراشدين، حتى لو كان هذا العمل تافهًا في أصله وعليه محاذير وملاحظات شرعية وتربوية، لكنه على أيّة حال عمل يديره فريق عليهم مدير ويتواجدون في مقرات حكومية تكره (وجع الرأس) وأي ضجيج حول برامجها، فإن لم يدفعهم المبدأ، دفعهم لتحقيق بعض الأهداف الجيدة ابتغاء رضى الناس، واليوم ترى طفلًا، يفتح البث المباشر بضغطة زر، دون أن يقدح في ذهنه أي شيء حال ضغطه للزر، عقله الصغير ومستواه التعليمي وطبيعة العمر كلها لا تؤهله لجلسة التفكير الإبداعي المستحضرة لأي أهداف وغايات نبيلة، أو حتى غير نبيلة، إنما هي الغريزة، المشابهة لغريزة الحيوان، لكن مع هذا يتابعه (يوميًا) ملايين الأطفال يضيعون من وقتهم معه ساعتين إلى أربع ساعات، هو ذروة يومهم، كان يفترض أن يكسبوا فيه أمورًا ضرورية للغاية (لا مجرد فضول مهارات أو معارف)، بل أمور مرتبطة بعناوين لا غنى عن إدراكها في حياتهم (الخطأ، الصواب، الضرر، الخطر، الإنسانية.. إلخ) والنتيجة جيل تنقصه الأساسات لا فضول المعارف، (مهني) شهادته الدراسية لا تثق بها المؤسسات؛ ولا تدل إلا على كونه قد تعدى سن 18 سنة.. وإذا احتاج وظيفة يكفيه الحدّ الأدنى من الحضور العقلي ليعرف أين يتجه وكيف يدير الشيء وينهيه.. برتم ينفع لفئران التجارب وقرود المعامل!
كنت أستهزئ في طفولتي ومراهقتي من أصحاب الفنون الحديثة التي تمرّ علي في بعض الوثائقيات، حين أراهم يضعون كيس نفايات ممزق فوقه منديل،، أو يرمون في زاوية من زوايا المتحف قلم مكسور وحبره ينزف بجوار قطع من البطاطس، ثم يظهرون بوقاحة (كما كنت أحكم عليهم) ليقولوا أن (تحفهم) الفنية تعبّر عن المعاني الفوضوية والسائلة التي سلك العالم طريقه نحوها، ولا أدري أكانوا يتصورون ما نراه، أم أنها مصادفة، لكنهم صدقوا في رؤيتهم، وكان فنهم معبرًا عن هذه (الدُوَار) الذي نعيشه في يومنا وليلتنا، وقد شعرت به حين دخلت بثًا مباشرًا في اليوتيوب ليلة البارحة لشخصٍ يصوّر نفسه وهو نائم.. والآلاف يتابعونه!
لذلك تفهّمت اختبار قياس.. لأنه يقيس مستوى أظنه يتساءل في النهاية عن (وجود العقل) ومدى تفاعله مع بعض الاحتمالات التي تخضّه!!
وتفهمت سياسة (مشّوهم) الصامتة في التعليم، وكيف اتسعت فروع الشركات الكبرى اللي لا تحتاج منافذ تسويقها إلا للحد الأدنى من التفكير.
وهذا يفسر ظاهرة الرخص والابتذال العام في المشاهد من حولنا فرأيناها أقل فخامة وأقل هيبة وصار كل ما كان لا يليق يومًا حاضرًا في المقامات اللائقة، رأيت ذلك حين قرأت لأناسٍ يمتعضون ويبدون صدمتهم الشديدة من ظهور مغنٍ لا طعم لفنه ولا لون في حفل جائزة نوبل، وحين رأيت الرئيس الأمريكي تاركًا حدود الكياسة الرئاسية ليشتم المغنين والفنانين والمتداخلين معه بتويتر، والجدار الرابع يكسر في كل مكان، في المسرحيات التي صاروا -إذا خرجوا منها- سيخرجون (إلى) النص(!)، وفي صفحات النجوم بمواقع التواصل التي تظهر كواليس كل لقطة، والشهرة صارت غير مفهومة، ترى شهيرًا يتابعه الملايين.. لم تعلم عنه، ولا بهؤلاء الملايين مع وجودهم منذ سنوات، وفي دائرة اهتمامك أيضًا.
إلغاء المسافات بين الناس التي قامت بها مواقع التواصل.. ألغى احترام المظاهر والمقام المكاني أو الشخصي.
حتى الأدباء علّقوا مسميات العصور القديمة المرتبطة بالمسميات السياسية والعرقية والدينية إلى عنوان كبير ينفخ الحاضر ويثني على تطوره، ولا يخجل من استفهامات أهل المستقبل عن هذا المسمى، فنحن في (العصر الحديث) وإلى هنا انتهت المسميات، وأي إضافات ومستجدات تطرأ فهي (ما بعديات)، مجرد ذيول وهوامش لهذا الزمان.
إن ما جرى للبشرية في القرنين الأخيرين، مقارنة بما وصل من التاريخ، يبدو غريبًا وشاذًا تمامًا، ومهيبًا بصعوده العجيب لقمم لم تتخيلها البشرية ولم ترها قادمة لقرون، ونعيشها اليوم كمستهلكين في سياق رتيب تخبو الدهشة من جديده سريعًا، فمنهم من سلّم لهذا التطور (اللانهائي)، ومنهم من رأى أن هذا العالم مرّ بدورات مشابهة لهذا الصعود، لم يصل من قديمها إلا فتات من آثارٍ هنا وهناك لم يُجمَع على حقيقة ما هي عليه ولا الزمان الذي تواجدت فيه، لكنهم أجمعوا على أنها لأمم بادت بلا خبر ولا علم عنها، ومنهم من يرى أنّ هذا تمام البشرية الذي لا يتلوه إلا بدء النقص. الأكيد أنّ هذا العالم لم يستقر على أساسٍ يضمن ديمومة حاله، هناك وعودٌ وتوقعات وثقة زائدة ونماذج متخيلة لواقع يجد فيه العالم طاقة هائلة تعد باستمرار العالم الجديد لقرون أخرى، لكنها لم تتجاوز الأماني، ودعايات مراكز البحوث والمختبرات الجامعية.. جلبًا لدعم الحالمين.
ولعل ما ذكرته من ملامح الانكسار النفسي لهذا النمط التطوري المستقر في النفوس ينعكس تواضعًا في النفوس، والتواضع خيرٌ كله، لا سيما بعد زمن الغرور الذي توحّش فيه العلماء قبل الجهّال، وزاغ عقل الإنسان، وما كاد يطلق للعلا صاروخه، حتى أشاح بوجهه، وازورّ عن طريق الصواب.
تزدان المدونة بتعليقاتكم وملاحظاتكم.