في الأسابيع الماضية احتفلت (مع نفسي!) بمرور 10 سنوات على إنشاء مدونة راكان عارف، ثم يا صبر أيوب، ثم رسيس، ثم مدونة الثائر الأحمر، وهذه أسماؤها المتعددة التي تنقلت بينها خلال الأسابيع الأولى من عمرها قبل أن أستقرّ نهاية الأمر على مسمى [ مدوّنة الثائر الأحمر ] – راكان عارف.
وأقمت تكريمًا (مع نفسي كذلك!) يتكون من فقرات متنوّعة، كتذكّر أنه قد مرّ عشر سنوات على افتتاح المدوّنة (وهذه هي الفقرة الأولى طبعًا!)، ثم الانتقال إلى الفقرة الثانية، فقرة (أوف!) والتي أنفخ فيها الهواء من فمي وتتسع العينان لتحكيا دهشتي من مرور الوقت، وأمّا الفقرة الثالثة فهي تفريغ نفسي من الملهيات لأجل المدوّنة؛ للاطلاع على أرشيفها كاملًا منذ أول تدوينة.. لآخر مقال، وقد أخذت عهدًا على نفسي ألّا أصحح أيّ خطأ إملائي أو مطبعي أو أسلوبي مهما كان إغراء التصويب، والغيظ، لأني سأضطر للاستقالة من وظيفتي لأجل هذه الغاية، وحققت هذا العهد لله الحمد والمنة في غالب ما قرأت.
بدأت بقراءتها حين امتطيت أوّل حرفٍ وكأنّني قد ركبت آلة زمن، لأتجوّل عبرها في عقدٍ من عمري، وأقابل شخصياتي واهتماماتي المختلفة خلال هذا العقد الطويل، منذ الحرف الأول الذي قابلت فيه شابًا أعزبًا يسكن وحيدًا في شقّة منعزلة ومطلّة على مزارع مهجورة في مدينة بريدة، وقد مضى عليه 7 سنوات في الجامعة، ولم يتخرّج، إلى ذلك المعلّم، الزوج، الأب، المعلّق بين الشباب والكهولة حتى يحكم الزمان قبضته على مرحلة الشباب ويطرده كليًا.
* * *
الكتابة تشيّد متحفًا عن حياتك، وهذا من أقلّ أفضالها، فقد تذكرت في جولتي هذه علاقات وقراءات واهتمامات، كما تعرفت على أخطاء الماضي؛ وكان من الظريف أن أتعرف على أخطاء لم أدرك وجودها قبل هذه الجولة، وربما أدركت بعضها في ذلك الزمان، إلا أنني كنت أظنّه صوابًا أو نافعًا، ولا بأس من ذكر بعضها، فقد استغرقت مع بدايات الأحداث السياسية في البلاد العربية في مسألة أخرى لا علاقة لها بالأحداث المشتعلة في المنطقة، وهي سلاسل انتشرت في الانترنت وقتها حول الجماعات الخفية والماسونية، مما أراه اليوم غير لائق لأن يصرف له أثمن الوقت، خصوصًا ممن مضى في القراءة والاطلاع والجلسات الجادة مع صحبة مميزة سنوات طويلة قبل ذلك، ولم يكن صغيرًا وقتها، بل في الخامسة والعشرين من عمره، ذلك الانصراف كان نزولًا عن عتبات علوتها في القراءة، واهتمامًا يليق بزلّات مرحلة المراهقة، لكني أعذر نفسي نوعًا ما لحجم الإخراج العجيب الذي كانت تُخرج به تلك السلاسل، وكان من الجميل أنني في آخر اهتمامي بها، كتبت عدة مقالات أنتقدها تكفيرًا عن تلك الأشهر.
ولاحظت أيضًا أنني لم أعط القصّة القصيرة حقها من الكتابة، مع قدرتي على ذلك، فإذا ركنت رواية (رهاب) جانبًا، فأنا لم أنشر طوال هذا العقد إلا أربع قصص فقط، وأجدها جيدة ولا بأس بها، أقول هذا وقد انفصلت عنها نفسيًا منذ لحظة نشرها، ولم أعد إلى قراءتها إلا في هذه الجولة، فحكمي عنها جاء بعد ابتعاد، ومن جرب الكتابة والنشر علم أن حكمه على نصوصه سيكون حياديًا ومنفصلًا عن عاطفة كتابتها ونشرها إذا كانت قراءته النقدية لها بعد أسبوعين على الأقل فما بالك إذا كانت بعد أشهر أو سنوات.
والملاحظات التي تنبهت لها كثيرة، وليس شرطًا أن تكون أخطاء وفشل، بل بعضها مزايا كنت أنعم بها ولم أنتبه لفقدانها إلا بعد هذه الجولة، ولعلّ من أهمها بالنسبة إلي، ولغيري ممن يعشق الكتابة، ذلك الاسترخاء غير المثقل بالشروط الذي كان يدفعني للكتابة ونحت الألفاظ وصناعة المصطلحات دون استحضار أي نوع من أنواع النقد.. مهما كان، وتلك ثقةٌ أفتقدها، وسعادة لم تعد موجودة، وحريّة موءودة، إنّ من أعظم سلبيات مواقع التواصل التي أثرت عليّ، تلك اللسعات التي تمرّ علينا بين حين وآخر، تنفخ في محاذير الكتابة، وتبني صرحَ ضميرٍ بغيضٍ من مبالغات وعُقَد، وتخنق الإرادة وتقيّد العقل وتسيء الظنّ، وتكثر من إشارات التنبيه، ووضع المحاذير، حتى "تطفّش" الكاتب من الإسهاب في الكتابة والحدر في السرد، فضلًا عن الجرأة -معاذ الله تعالى- على ابتكار المسمّيات والاستمتاع بذلك، فإمّا أن يخطّ القلم ما خطّه الجاحظ وأسهب به ابن تيمية وقدح في ذهن ابن خلدون.. وإلا فالمداد عليك حرام، ولا كفّارة لهذا!
وهذا الهولوكوست النفسي امتد ليحرق الهمم في مجالات أخرى كالقراءة، فحجزت بين أجيال شابة وبين قامات وأساطين بسبب هذه النصائح الفجّة العسيرة التي لو ظهرت موضتها في أجيال مضت لانمحى من التاريخ أسماء عظيمة في مجالاتهم، فهذه النصائح ستعمل عمل مضيفة الطائرة أو شاشة التنبيه فيما لو استُبدلت جملة (في الحالات الطارئة) إلى حكاية تفصيلية عن ماهية الحالات الطارئة التي ربما يتعرض لها ركاب هذه الرحلة بناء على قصص الكوارث المرعبة في تاريخ الطيران، سترى المسافرين يقفزون من مقاعدهم ويهلك بعضهم تحت أقدام بعضهم من الرعب والرغبة بالمغادرة فورًا من الطائرة، وسيلغون سياحتهم الخارجية ليخيّموا في (أم العصافير).. و"يا دار ما دخلك شر".
كنت أكتب منعتقًا من كل ذلك، لذا كانت مقالاتي طويلة، وأكتبها في وقت قصير، وكانت يسيرة على القارئ، حيث أهتم بإيصال الفكرة والمعلومة دون التركيز على المبنى وزخرفة الألفاظ، عكس التدوينات بدءًا من 1434هـ/2015م، والتي تأثرتُ فيها بوساوس مواقع التواصل، وقراءات متنوعة عدت فيها إلى البحوث والمقالات المنشورة عن أساليب الكتابة وطرقها وكيفياتها، وما جدّ من مطبوعاتها، وابتعادي عن الكتب الأدبية، وقراءتي في الفلسفة والفكر، فتباعد النشر، واتسعت المخاوف، وكثر التردد، وازدادت المراجعات، وركنت الكثير من الأفكار إلى مخزن الحُبْسة، وقصرت المقالات، وحُشرت المعاني، وإن زاد الأسلوب جودة في المقابل، وعلى كل حال، من طالع شيئًا من السير الذاتية تيقن أن قَدَر الكاتب ألا يرتاح لكتاباته الماضية بعد فترة من نشرها، فضلًا عن سنوات بعد ذلك، لكنّي في سياق ذكر الآثار الأخرى.
لكن لا مانع من أن الكاتب قد يعجب بمواضيع قديمة له، تجعل الجانب المثبِّط من شخصيته يردد: (ما شاء الله.. والله لك كتابات جيدة! لا بأس! لا بأس!).
* * *
وإليكم إحصائيات هذه السنوات العشر:
- العدد الكامل للتدوينات المنشورة: 254 تدوينة.
- عدد مقالاتي منها: 177 مقالة، ولو قسمناها على 10 سنوات، أكون قد نشرت مقالة كل ثلاثة أسابيع، وهي نتيجة مقبولة، وقد كنت أظن أن عددها أقل من ذلك بكثير، ولو كانت المعادلة مقالة كل أسبوعين لكنت سعيدًا بهذا الإنجاز، ولكني لم أنشر بهذا التقسيم للأسف، في البدايات كنت أجدول نشر المقالة، لكني لم أستطع الالتزام بهذه الجدولة، وقد كررت المحاولة فلم أطق هذا الترتيب، ومللت من المحاولات الفاشلة، فصرفت النظر عنها، وصبغت هذا الملل بألوان من التبرير، كاتهام الجدولة بإلزامي أن نشر أي كلام ولو لم أكن متحمسًا للكتابة، فكان نشري فوضويًا.
- بقية التدوينات التي فصلتها عن تعداد المقالات كانت فيديوهات منوعة وكثيرة (وكنت قد وضعت قسمًا لها ثم ألغيته مع أقسام أخرى) و4 قصص قصيرة و34 تدوينة نشرها الصديقين راكان الضوي، ومشعل الحربي.. في السنة الثانية من المدونة.
- عدد زوار المدونة منذ البداية وحتى كتابة هذا السطر: ٣٢٦٬٦٦٥ زائر، وهذا الرقم مناصفة تقريبًا بين محركات البحث والزوار المباشرين، ومتوسط زوار المقالة مع الأيام يتردد بين 400 و2000 زائر.
* * *
كثيرًا ما ألام من بعض الأصدقاء والأفاضل حول اكتفائي بالنشر في هذه المدونة، مع العلم أنني قد نشرت في صحيفتي المدينة ومكة زمنًا، وكنت كاتبًا لخمس سنوات تقريبًا في مجلة حياة للفتيات التي كانت منتشرة في العالم العربي، وعشت معها نعيم التفاعل، وعُرض عليّ الكتابة الأسبوعية في موقع الألوكة بعد مشاركتي معهم في مقالة لي رُشّحت للفوز في إحدى مسابقاتهم، كان عنوانها (القافلة تسير والعاقل ينصح)، ولا زالت منشورة في موقعهم باسمي، لكنّي رفضت عرضهم لأنهم يحصرون كتابتك في اتجاه معيّن، ولا شك أنه اتجاه خيّر، لكن سيحرمني من الكتابة في غيرها لانشغالي بها، فارتحت في النهاية للكتابة في المدونة لهذا وللأسباب التالية:
الأول: أنّ التفاعل في هذه المدونة جيد جدًا، ولا بأس به، وجزء كبير منه لأني حريص على الدعاية له بعد نشر كل مقال عن طريق إعلانات جوجل، وإعلانات تويتر، وأنوّع في خريطة الدعاية بين حين وآخر، فأتنقل من دولة لأخرى بحسب المقال، فمثلًا مقال [ الرافِه في شرح أحاديث التوافه ] أعددت له دعاية في الكويت ومصر، والأسباب معلومة لمن قرأ المقال.
السبب الثاني: اعتقادي أن الحدود التي تقيد التفكير، والأحمال التي تثقل بالك حين تكتب في الإعلام الرسمي، أو حتى الخاص (المملوك)، والذي تكون فيه تحت سطوة محرر ما (مسطوًّا عليه هو الآخر من قبل إدارة عليا)، وفي حدود مزاجه وفكره ومخاوفه ومبالغاته (وتفوقه العلمي أو الأدبي أحيانًا!)- تسيء لكتاباتك وتكتم الأنفاس حتى تصاب بما يسمى حبسة الكتابة من شدّة القرف والانزعاج، وقد ذكرت أن الألوكة عرضوا عليّ الكتابة لديهم، وهو بلا شك من خير المواقع وأجملها في الانترنت، ولكن أحد أسباب رفضي كذلك هو رسالة أرسلها لي محرر الموقع حول شروط (مبهمة) تُدخل المزاج والذوق الأدبي في تصنيفهم لكتاباتك، بالإضافة إلى امتلاكهم لكتاباتك بمقابل رمزي لا يستحق هذا العطاء.
وقد ذكرت أنّ التفوق العلمي والأدبي للمحرر من مقيدات التفكير بالنسبة إلي، وهذا واضح، وأبرره لنفسي بتصالحٍ تام، فلم نُوفق -واسمحوا لي أن أستطرد هنا- في طفولتنا إلى أية علاقة مع الكتب، ولم نتأسس على شيء مطلقًا، لا جيدٍ ولا ما هو أقل من ذلك نفعًا، وقد بلغت سنّ المراهقة ولم يقع بين يديّ كتابٌ خارج المنهج الدراسي غير رواية واحدة ممزقة لأجاثا كريستي، فلم تكن المكتبات معروفة في مدننا، ولم تضف البيئة شيئًا لي، وقيل فيما بعد أنّ مدارسنا التي درسنا فيها تحوي مكتبات، ولم أدر عن ذلك في الاثني عشرة سنة من الدراسة فيها، ولم يكن الانترنت متاحًا، وحتى في السنتين الأخيرتين من الثانوية حين أخذت مقاهي الانترنت بالانتشار في المدن والمحافظات، كانت الساعة بخمسة وعشرين ريالًا سعوديًا (7 دولارات تقريبًا)، وكان النصف الأول من الساعة يُستغرق في فتح الصفحة الرئيسية لمحرك البحث جوجل، والنصف الثاني للبحث عن صفحة عربية من بين عشرات الصفحات الإنجليزية، وهكذا تصرف قرابة المائة ريال لدخول الصفحة الرئيسية لأحد المواقع العربية القليلة، فلم يكن هنالك مجال للتعلم من الانترنت، ولم يكن المحتوى العربي مؤهلا لذلك حينها، وحين كنت أبحث عن مدينتي رفحاء في جوجل لم يكن يظهر لي في 2001 إلا صفحة عراقية عن ذكريات النازحين العراقيين في رفحاء، ويبدو أنه تابع للأمم المتحدة، فحرمنا في هذه الأجواء المملة من التأسيس في تلك المرحلة، والحمدلله على كل حال.
ومن ثم، وبعد أن بدأت أتكلف القراءة في المرحلة الثانوية بعد تيسّر السفر لمناطق تحوي مكتبات، لم أنعم بالموجّه والناصح، إلا في توجيهات مرتبطة بالاتجاه الشرعي العلمي، وعلى قيمته، لم أكن مهتمًا به، وقد علم كل أناس مشربهم، وكان يصاحبها تحذيرات (دافعها النية الطيبة ونبل التطوع وعمل الخير ونفع الناس والذي لن نوفي أصحابه حقهم العظيم علينا) من أي توسع نحو أي اتجاه في القراءة لأننا لا زلنا (في أول الطريق)، فكان لهذه التوصيات سطوتها حتى يومنا هذا، وقد انصرفت عن القراءة لمؤلفين كبار زمانًا (كابن تيمية مثلًا، وابن خلدون، والرافعي.. وغيرهم) بتأثر نفسي من وصايا صنعت عقدًا في النفوس بالكاد حللت بعضها مع الوقت، وربما كانت الوصية نافعة بحق، وصائبة تمامًا، لكنّ صياغة التحذير محتقنة بالمبالغات والتهويل، فتثبط من عزم النفوس اليافعة المتوثبة، وتستوحش من أقلام العظماء، ولعل هذه مما يغفل فيها المربي أحيانًا، وهي من أشواك أرض التعليم التي أخشى أن أطأها كلّ حصة أدخلها على طلابي.
على أية حال، بعد أن بعثرْتُ بنية التعقد من القراءة وأزلتها عن نفسي أضعت وقتًا ثمينًا على توافه أو تعقيدات، فتخيل أن تفتتح عالم القراءة بكتب سياسية عن ستينات وسبعينات مصر لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت فيه، فقط لأن العناوين جذابة، أو كتابًا عن نظرات جديدة في القرآن وأنت لا تدري ماهي النظرات القديمة أساسًا، ولا زال شعور المرارة يعتريني كلما أتذكر أنني كنت محظوظًا لزيارة المكتبات في المرحلة الجامعية فأتجاوز أصولًا وكتبًا مهمة إلى رفوف دعائية ومبهرة ولا تضيف شيئًا يستحق؛ بل تضرّ سنوات التأسيس ضررًا لا مجال لإزالته بالكلية؛ بل يبقى ملازمًا لك، ويزداد الأمر أسى حين يوافق تسجيلنا الجامعي نقلةً كاملة لإدارة الجامعة والأقسام من كونها فرع إلى جامعة مستقلة، فتقص شريط هذه المرحلة بفوضى شاملة بثت أجواء التوتر في الجميع، وكرّهت الطلاب في صباحها، وخرجت بالكلية عن وظيفة التأثير، وحالت عالةً وكمدا، لا تغفر للطالب زلته، بل تفرح بها، ولا للمتأخر تقصيره، وكيف لا تكون كذلك، وأوّل الأسابيع الجامعية تسمع فيها من "الدكاترة" جملًا من مثل: (أنتم والكراسي سواء) (لا يأتيني أحد في مكتبي، فـ 200 طالب في القاعة كافية للتنكيد) وتهديدات وإهانات لا تنقطع.. ونحو ذلك من المزابل الأكاديمية التي تحسّنت بعد أن جنت وظلمت ونفّرت وحاز القائمون عليها أحمالهم من الظلم والقهر.
فلا يمكن بعد هذا كلّه أن تكون بنية الكلمة لديك، وبناء الجملة، وصياغة الأساليب، بجودة من سبقك بعقدين من التأسيس والبناء، فإنّك وإن عرفت طريقك، وبدأت تتضح معالم اهتماماتك، وتتشكل غاياتك في الأفق، وانطلقت نحوها بتواصل لا انقطاع فيه ستبقى متأخرًا، فكيف بانطلاقٍ تجاهد فيه مسؤوليات العمر بعد فوات الصفحات البيضاء للعقل والروح والوقت في مراحل الطفولية، استحضار هذا جعلني متصالحًا مع (خواطر الاحتجاج) على قدر الله تعالى، مرددًا: قدر الله وما شاء فعل، و: اللهم آجرني في مصيبتي. دون أن يشمل التصالح مع (الجهل) ومواطن (النقص).
هذا السبب الثاني الذي جعلني أكتفي بالنشر في المدونة، فأنا أعتبر نفسي في سنوات التأسيس، وجعلت منها ورشة عمل وتدريب وتطوير في مجال أكثر حرية من وسائل النشر الأخرى، دون أي ضغوط وأحمال من محرر قد يستغرب هذا (المستوى) الذي لا يرتقي لمستواه الذي نشأ عليه وسبقني نحوه بسبب بيئته العلمية وتربيته الموفقّة وتأسيسه المبكر ووجود الموجه العارف والحريص، ومع أنّ الزيارات في تلك المواقع أكبر (فمقالي في الألوكة كمثال، والمنشور حتى هذه اللحظة، كسب 5000 زيارة، وهذا عدد رائع يتجاوز زيارات المقالات في كبرى الصحف الإلكترونية في الخليج)، لكن ضريبته ما ذكرت من تقييد وضغوط، وقد راسلت مرّة إحدى الصحف الإلكترونية المرتبطة بمدينتنا بطلبٍ منهم، فجاءتني رسالة من محرر ما قرر أن أسلوب مقالي (يحتاج لمراجعة) فكدت أن أتقيأ -أعزكم الله- على الشاشة لأن رسالته أعادتني لأجواء (صناديق القراء) التي كانت تخصصها الصحف والمجلات لهم، وتدخل فيها المحسوبيات والواسطات غالبًا، ولا بأس -على أية حال- من تجربة مراسلتها للنشر أحيانًا، فهذه تحلية لا بأس من تذوقها، وتنفخ من شعور الثقة بالنفس حين يجيزون نشرها.
أما السبب الثالث، فهو أنّي قد جعلت المدوّنة مسودة للنشر الورقي، فأنا أعتبر نفسي، وبناء على ما سبق، على طريقة الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى، والذي كانت غالب مؤلفاته مقالات مجموعة تحت وصفٍ أو جوهرٍ واحد، وقد جربت البحث والتأليف والجمع في حدود 100-150 صفحة مرات: بحث التخرج من الجامعة (وقد اجتهدت في كتابته وكان عاقبة هذا الجهد أن الدكتور الفاضل شكك في كتابتي له أثناء المناقشة، وكرر ذلك وألحّ عليه، وكان لسان حاله "سأجيزه، ولكن الله حسبك على هذا الغش الذي لم أستطع إثباته!" وأصرّ على تكذيبه رغم الأيمان المغلظة، ولا أخفيكم أنني -رغم حنقي عليه وحزني من تلك المناقشة حينها- قد سررت بعد ذلك، فهو شهادة بجودة ما كتبت في ذلك البحث)، وبحث آخر في مسابقةٍ لبحوث فقهية تابعة للمكتب الدعوي في مدينتي، ولم يكن موفقًا حسب المقيّمين لأسباب أساسية لم أنتبه إليها، والثالث جمعٌ لأحاديث شريفة تحت أبواب فكرية معاصرة أسميته (متن التغريب) وألغيته ولم أنشره رغم الثناء الموثّق بالمراسلة بصيغة الأمر بإتمامه لأحد العلماء المشاهير المتخصصين بعلم الحديث لقلة ثقتي بنفسي في هذا الجانب، لا لسبب آخر، والرابع هو رواية (رهاب)، والذي كانت تحديًا لنفسي على طريقة العقاد الذي ذكر أن سبب طرقه لبعض الفنون التي ألف فيها رغم أن ذلك غير متوقع منه هو رغبته بمعرفة حدوده العقلية، وقد فعلت، وسررت بها كثيرًا، ولا أدري عن رأي الناس بها، وكتاب (يا صبر أيوب) الذي أتممته قبل سنوات، وكان أول كتاب -حسب متابعتي- يأتي بفكرة نشر التغريدات وخواطر الفيسبوك والتدوينات، وكان اسمه الذي أعلنت عنه في 2010م (يا صبر أيوب! تغريدة، خاطرة، وتدوينة) ولم أعرف كيفية نشره، وكنت أظن أنه يجب عليّ القيام -أولًا- بالذهاب للعاصمة وطلب فسحه من الوزارة، وكنت طالبًا جامعيًا، فلم أملك (رفاهية) هذه المراجعة للعاصمة، والتي تستغرق عدة أيام، فركنته جانبًا، وبعد سبع سنوات علمت أن بعض دور النشر -إذا أعجبت بكتابك وقررت نشره- ستتكفل بهذه الواجبات الإدارية المملة نيابة عنك، لكن فات الأوان على نشر الكتاب، وجاء بعده سيلٌ من الكتب الجامعة لنتاج الصفحات الشخصية في مواقع التواصل، فتجاوز الزمن فكرته.
وبعد هذه التجارب، تيقنت أن نَفَسي في الكتابة يقصر عن التأليف، ولعلّ هذا الزعم تلطيف للرضوض والندوب التي تغطي الهمّة، مهما يكن الأمر، لهذا أو ذاك يمّمت وجهي لفن المقالة، وحتى الرواية القصيرة التي نشرتها كانت قصصًا متفرقة لشخصية واحدة يجمعها مضمون واحد في أماكن مختلفة.
ولو جلستُ للتأليف ووُعِدتُ بالجوائز المغرية لذلك لتعسر عليّ (إن لم يكن مستحيلًا) أن أكتب 177 مقالة في 400 صفحة (على أقل حسبة). ولكن كتابتي لها متفرقة، في وقت ممتد، مع استجماع الذهن لتدبيج كل مقالة، وقد خلا البال من ضجيج أفكار المقالات الأخرى، يجعل الأمر يسيرًا، وما أكثر (الأعمال الكاملة) المعاصرة التي تضخمت بسبب هذا الاختيار.
السبب الرابع: أنني مؤمن بأن التدوين لم يأخذ حقه في عالم الانترنت، ولم يُفهم جيدًا، في المحتوى العربي تحديدًا، صحيحٌ أن ما كنا نسميه يومًا (مجتمع التدوين) قد نهض فترة من الزمن (بين 1427-1431هـ | 2006-2010م) لكن نهوض مواقع التواصل اختطف أفراد ذلك المجتمع الجميل، وبلغ الهجر ذروته بعد ذلك بقليل مع اشتعال مواقع التواصل العربية بسبب الأحداث السياسية منذ أواخر 2010م فكان ذلك المسمار الأخير في نعش جمهورية التدوين الثانية (أعتبر موقع جيران هو جمهورية التدوين الأولى للعرب)، وقد كان من عادتنا في ذلك المجتمع أن نضع أسماء المدونات التي نتابعها، مع إحساس بالانتماء، والسمة العامة في أجوائه الهدوء، مع رقيّ وتسامي، مقارنة بالمنتديات التي كانت تجنح للسوء والفوضى وتنحدر للانحطاط والفشل خلا ما اختص منها بمجال معين وركز فيه.
غير أنّ التململ من مواقع التواصل الاجتماعي لأسباب كثيرة: كالتشبع، واختطاف أجوائها العامة من جيوش الكترونية تابعة لجهات متشابكة سياسيًا وفكريًا منذ 1435هـ/2014م، وحملات الـ (spam) التي نكدت على روادها كثيرًا، والمكارثية، والتنمر، والفوضى غير الخلاقة، كل هذه كانت سببًا في هذه العودة لمجتمع التدوين، بالإضافة إلى السهولة والتطور اللذان جريا لمنصات التدوين (blogger) و(wordpress) خلال هذا العقد مقارنة بمجتمعي التدوين السابقين، وتوسع هذه العودة في العالم الحالي 1439هـ/2018م كان ملحوظًا في رأيي، مع ظهور سمات جديدة وافقت تطور المنصات، كالميل للبساطة في تصاميم المدونات، وافتقادنا لبعض السمات القديمة (فلم نعد نرى عمود "مدونات صديقة" أو"مدونات أوصي بها".. إلخ)، كما أن مواقع التواصل صارت هي الوسيط بين المدوّن والقرّاء الأوفياء والجدد، بعكس الأمر في المجتمع القديم حيث كان الوصول للمدونة عبر تفضيلها في المتصفح أو عن طريق مدونة أخرى أو تواقيع المنتديات، ولكنها في العموم عودة محمودة، وأنا سعيدٌ بها، كما أني باستمراري في هذا المجتمع بلا انقطاع طويل خلال عقد الهجران أسعد.
مع العلم أن عالم الفتيات مع التدوين مختلف، فهناك (اكتشاف) من الأجيال الشابة لفتيات الجامعات لعالم المدونات؛ بل ولمدونات بلوجر بالذات، وقد ذهلت من كمّ المدونات اللاتي ينشرن في هذه المنصّة، فجمعت في مفضلتي عددًا كبيرًا من هذه المدونات حتى لم أستطع المتابعة لكثرتها؛ واللاتي بدأن نشاطهن منذ سنة وسنتين.. وقلة قبل ذلك، بل -وكعادة الفتيات في إضفاء الجمال والإتقان- صنعن مجتمعًا للتدوين خاص بهن له صفحة على تويتر باسم (عالم المدوِّنات) بكسر الواو، وكذا رأيت صفحة لمدونة اسمها هيا جمعت فيها المدوّنات بترتيب جميل للغاية،وبلغت -ويالدهشتي- أكثر من ثلاثمئة وخمسين مدونة، ومن فرحتي بوجود هذا العالم دخلت غالب المدونات ورددت عليهن مشجعًا ومحفزًا خشية من انقطاع هذه الشعلة و(الأمل) لعالم التدوين الخليجي والسعودي بشكل خاص، وأما جانب الجمال فقد رأيت قدرات لم أدرك وجودها في منصة بلوجر للتدوين، فغالب مدونات هذه الفتيات أشبه ما تكون باللوحة الفنية لجمالها مع سمات البساطة والتخفف، واهتمامات متنوعة (التربية، الأعمال اليدوية، أساليب الحياة، التربوية، الأدب.. وغير ذلك)، ولا أنكر أنني أحسست بالغيرة من نشاطهن مقابل الجفاف العاطفي الذي يعانيه عالم المدونات الذكوري، بغيت أسمّي مدوّنتي (مدوّنة صلفة) كي أدخل في فهرسة هذه الشبكة الكبيرة، لكن سيتم اكتشافي بالطبع، وسأكون في موقف عنيف مشابه للذي يتعرض له من يكتشف تسلله للأعراس بالعباية.
مع العلم أن عالم الفتيات مع التدوين مختلف، فهناك (اكتشاف) من الأجيال الشابة لفتيات الجامعات لعالم المدونات؛ بل ولمدونات بلوجر بالذات، وقد ذهلت من كمّ المدونات اللاتي ينشرن في هذه المنصّة، فجمعت في مفضلتي عددًا كبيرًا من هذه المدونات حتى لم أستطع المتابعة لكثرتها؛ واللاتي بدأن نشاطهن منذ سنة وسنتين.. وقلة قبل ذلك، بل -وكعادة الفتيات في إضفاء الجمال والإتقان- صنعن مجتمعًا للتدوين خاص بهن له صفحة على تويتر باسم (عالم المدوِّنات) بكسر الواو، وكذا رأيت صفحة لمدونة اسمها هيا جمعت فيها المدوّنات بترتيب جميل للغاية،وبلغت -ويالدهشتي- أكثر من ثلاثمئة وخمسين مدونة، ومن فرحتي بوجود هذا العالم دخلت غالب المدونات ورددت عليهن مشجعًا ومحفزًا خشية من انقطاع هذه الشعلة و(الأمل) لعالم التدوين الخليجي والسعودي بشكل خاص، وأما جانب الجمال فقد رأيت قدرات لم أدرك وجودها في منصة بلوجر للتدوين، فغالب مدونات هذه الفتيات أشبه ما تكون باللوحة الفنية لجمالها مع سمات البساطة والتخفف، واهتمامات متنوعة (التربية، الأعمال اليدوية، أساليب الحياة، التربوية، الأدب.. وغير ذلك)، ولا أنكر أنني أحسست بالغيرة من نشاطهن مقابل الجفاف العاطفي الذي يعانيه عالم المدونات الذكوري، بغيت أسمّي مدوّنتي (مدوّنة صلفة) كي أدخل في فهرسة هذه الشبكة الكبيرة، لكن سيتم اكتشافي بالطبع، وسأكون في موقف عنيف مشابه للذي يتعرض له من يكتشف تسلله للأعراس بالعباية.
وقد قررت أن أتأقلم مع هذه العودة بتصميم جديد للمدونة، مناسب لبعض السمات العامة لجمهورية التدوين الثالثة، حيث البساطة، والمساحات البيضاء الطاغية على الصفحة، والاكتفاء بلون أو لونين يميز خطوطها، ولن أنافس بطبيعة الحال تلك اللوحات الجميلة لعالم المدوِّنات (قلنا بكسر الواو!)، غير أني لن أنقطع عن السمة الكلاسيكية التي ميزت الجمهورية الثانية للتدوين، وأعني إرفاق الصور أعلى التدوينات (وهي سمة غير موجودة غالبًا في هذه العودة)، فأنا لا أستطيع أن أمنع نفسي من متعة البحث عن صورة مناسبة للموضوع، فهي من أروع طقوس النشر لديّ (إذا كنت غارقًا في موضة الغيظ من وصف أجزاء الكتابة بالطقوس، لا تفعل، واحلم علينا!)، وأرجو أن يعجبكم المظهر الجديد للمدونة، وإذا لم يعجبكم فلا بأس، فهي مساحات بيضاء على أية حال.
* * *
ستلاحظون أنني غيرت اسم المدوّنة من [ مدونة الثائر الأحمر ] إلى [ مدوّنة كِتَاف ]، والكتاف في اللغة: الحبل الذي يُشدّ به، وقد أخذت هذا الاسم مستحضرًا قول الشاعر:
العلم صَيْدٌ والكتابة قيده *** قيّد صيودك بالحبال الموثقة
أعتبر أن اسم الثائر الأحمر (الذي كان اقتراحًا جميلًا من أحد مشاهير المنتديات وقتها، ولا أعتقد أنه يرغب بذكر اسمه) قد أخذ حقّه من نفسي، وصار باهتًا، ولم يعد له معنى، وقد حان وقت ركنه إلى التقاعد مع الذكر الطيب، كما أنني أخالف -باستمراري في ربط المدونة بعنوانٍ غير اسمي الصريح- ميزةً من مزايا الجمهورية الثالثة، وهي عنونة المدونات بأسماء كتابها دون ألقاب أو رموز، كأن يكون مسمى مدونتي (مدونة راكان عارف). لأنني أرى أن في هذا تخليًا عن روعةٍ مجانيةٍ موجودة بين يديك، فما الداعي لهذا التخلي؟! لديك فرصة بتسمية مدونتك اسمًا جميلًا رنانًا لا ينسى، ومن ثم تستطيع أن تربط اسمك الصريح بها، فلماذا ندع هذه الميزة الجميلة؟!
وقد حجزت رابطًا جديدًا للمدونة بعنوان rakan.blog لكنه للأسف لن يتوفر قبل شهرين من كتابة هذه المقالة.. وإلى ذلك الوقت سيبقى رابط المدونة rebel-b.com أثرًا باقيًا من هذا العقد.. وتلك الثورة الحمراء.
وأترككم مع متحف الصور المؤرخ لتصميمات المدونة:
البنرات المتعددة للمدونة
تصميم المدونة 1432/1430 - 2011/2009
في تلك الفترة وقبلها بثلاث سنوات كانت الألوان طاغية على صفحات المدونات، والروابط كثيرة ومتنوعة.
في تلك الفترة وقبلها بثلاث سنوات كانت الألوان طاغية على صفحات المدونات، والروابط كثيرة ومتنوعة.
تصميم المدونة 1436/1432 - 2015/2011
وبدأ البياض في هذه المرحلة يطغى على المدونات (وأنا لست المقياس بل أتتبع الموضات المنتشرة وقتها) مع بقاء طرق التقسيم وانتشار الروابط كما هي.
تصميم المدونة 1439/1436 - 2018/2015
وفي تلك الفترة بدأ التبسيط والتخفف يغزو المواقع والمدونات الأجنبية.. فتأثرت بها في هذا التصميم.
كل هذا الجمال والعطاء تسميه ورشة عمل وتدريب ومسودات ؟ :)
ردحذفممكن ان هذا الوصف يصح على عهد المنتديات التي كانت فعلا ورشة عمل والواحد فينا كان يكتب ولا يخاف إلا من المشرف ههههه
لا تحطم نفسك يا حبيب ، قلمك سيّال على انقطاعات لا تناسب بصاحب الهم والرسالة ، تعودت على مسمى الثائر الأحمر ، واللون الأحمر ، لكن الاسم الجديد جدًا رائع .
متابع قديم لك ، وحريص على العودة لموقعك كل فترة لمطالعة جديدك والتجول في الأرشيف وفضائحه :)
تسلم عزيزي...
حذفهذا من حسن ظنك وجماله..
صدقت عن مسألة الانقطاع.. الله يفكنا من هذا الكسل والخفوت.. وكلما عدنا قلت لن أنقطع.. لكن سبحان الله تمر الأشهر ولا تنتبه لنفسك.. وهو فعلًا لا يناسب ولا يليق لمن يزعم أنه (كاتب).
كاتب.. وهو ما يكتب نصف السنة!!
مخجل.
وياليت تلصّق الفاصلة بالكلمة التي قبلها.. عجزت لا أتجاوزها بكلامك ههههه :d
ألف مبروك أبو عارف هالعشرية
ردحذفوعقبال العمر كله يارب
مبدع منذ عرفناك بالمراكز والمنتديات الرفحاويه بس صاير لطيف بكتابتك عقب ما كنت شرس ومسعر حرب بالمسرح وبالانترنت
الاستقرار خدر جيلنا ياربي لك الحمد...
الله يبارك فيك يالغالي.
حذفودي أفلسف سالفة اللطف، لكن شكلها الكهولة، ومغادرة سنّ العشرين؛ بل وانتصاف الثلاثين، غير مسألة الزواج والاستقرار كما تفضلت، وعلى كل حال ما كنت ذاك الشراسة، فضلا عن تسعير الحروب، لكن شكلك إنسان لطيف، وأنا مقارنة بك أقل لطفًا، فأبدو شرسًا.