جلست يومًا إلى مكتبتي، وأخذت أتأمل جمع السنين من المؤلفات والكتب، وكنت قد رتبتها زمنيًا عفو الخاطر، فما يُشترى ويوضع على الرف يحجز مكانه بذات الترتيب حتى لو غادره فترة من الزمن، أو استبدلت الرفوف، فصارت كأنها خارطة زمنية لاهتماماتي، وكان تأملي لها اعتياديًا، يخالطه الحنين والشجى لارتباط بعض الموجود ببعض الذكريات، لكني بدأت أتأمل جَمْع السنوات الأخيرة، فلاحظت تذبذب العناوين والفنون مما خرج عن سياق ما كنت أقرأه لسنوات، في الأدب والفكر وبعض الشعر وكثير من الرقائق.
ومع أن بعض ذلك التذبذب في الجمع أفادني، وطالعته بحماس، لكنه منقطع، لأنّ تذبذبًا آخر يحل مكانه، وواضحٌ من عدد الكتب، وطبيعة العناوين أن فترة الاستقرار قصيرة في كل اتجاه أسلكه في السنوات الأخيرة، وحين قمت بعدّ الفنون الطارئة التي دخلت مكتبتي، بعضها أفدت منه، واستمرت قراءتي فيه، وبعضها لم أفتح منه كتابًا واحدًا، وجدتها ٦ أنواع من الفنون، غير الكتب التي لا مذهب لها ولا اتجاه، يتيمة بين هذه الفنون، وداخلةٌ في سبب هذه الطوارئ.
قديمًا، كان كتاب التخصص يجذب كتاب التخصص، فإذا قرأت في الأدب سيدلك الكتاب على الكتاب، وسيتشكل في ذهنك تشجيرًا لكتب هذا الفن مع مرور الوقت، بلا أي مؤثر خارجي، مالم تسأل بنفسك، أو تكون قد عشت مثلي بدايات الشبكة، تبحث في المواقع والمنتديات عن مسارات القراءة، وتتلقى توصيات مقتضبة، أو شاملة، أو تذهب إلى المكتبة، وتشتري كتابًا من الكتب القليلة التي كانت تهتم باستعراض العناوين والمسارات.
وكنت تجد طريقك في الشبكة لاكتشاف نقاشات حالية أو ماضية عن موضوع الكتاب الذي تقرأه، تنتظر أن يفتح لك جوجل الباب نحوها إذا حالفك التوفيق، فتغرق في أفكار الكتاب عبر عيون وعقول الآخرين، وهذا يضاعف الفائدة، ويجعل الكتاب حاضرًا في الذهن، وأفكاره قريبة إذا استدعيتها.
لكن جاء هذا التذبذب بعد لعنة مواقع التواصل، التي فتكت مع ظروف أخرى بعالم المنتديات، واعتمدت على فكرة المتابعة، وظهور جميع أنشطة المتابعة في صفحة واحدة، تجتمع فيها اهتمامات تخصصك، باهتماماتك السخيفة، باهتمامات غيرك ممن تابعته مجاملة، وتابعك مجاملة كذلك، بفضولك، وما أدراك ما فضولك، بإياد الحمود، وبغير ذلك مما طالته نقرة إصبعك من الحسابات والصفحات.
ومع الأيام تستقر على صفحة رئيسية بأعداد متابعات محددة تزيد قليلًا وتنقص قليلًا، لكنك لم تتجاوز معها رتمًا معينًا ستستمر معه لسنوات، لتدرك (إذا حالفك العقل!) أن هذه الصفحات من أكبر المؤثرات في فكرك، وفي اتجاهاتك، واختياراتك، سواء داخل اهتماماتك القديمة، أو ما يستجد لديك.
الصفحات الرئيسية في مواقع التواصل وسائل برمجة لإنسان زماننا، كنا نظن التنويم المغناطيسي مجرد ساعة تتأرج يمنة ويسرة أمام عيني الضحية، فإذا معناها أوسع وأشمل وأكثر تأثيرًا من ثقل الرأس وانحنائه نحو غيبوبة قصيرة، وضحية هذا التنويم والبرمجة بين أمرين لا ثالث لهما، الأول، أن يراجع ما جمعه منها، سائلًا نفسه هذا السؤال: هل أنا من شكّل الاختيارات في صفحتي، أم أن مؤثرات خارجية شكلتها بعد أن جذبتك لحساباتها بتسويق ماهر ومحترف ولا يملك الإنسان الذي لم يستوعب خطورة مواقع التواصل أن يقاومه؟
إن نقرةً قمت بها لمتابعة حسابات أحد المتخصصين في فن معين، والذي كان بمهارته وذكائه وكاريزماه مسوقًا جيدًا لذلك الفن؛ انحرفت بصفحتي الرئيسية زمنًا نحو مواضيعه ومؤلفاته وشخصياته وحسابات متعلقة ومرتبطة ومزكاة من قبل هذا السياق وأصحابه، وانحرفت معها اختيارات مكتبتي، وتصفحي في الشبكة، وملفات المفضلة، وألبوم التقاطات الشاشة في جوّالي، مع أن الخاطرة السابقة لتلك النقرة هي: (خلنا نشوف) هؤلاء وتخصصهم وأجواءهم!
وهذا الأمر يحصل في غمضة عين، وستكون في غيبوبة حتى تدرك ذلك، وقد لا تدركه زمنًا طويلًا، وتتوه معهم، وتبدأ معهم ومع فنهم، وقد كنت في منتصف طريق طويل مع اهتماماتك القديمة، وما ذاك إلا لسحر هذه المواقع، وقدرتها على إدخالك في دوّامة من الإغراء لأي شيء جاد أو تافه، وبأي وسيلة كانت من صوت أو صورة أو فيديو أو بث مباشر.. إلخ، وبلا مبالاة لأي تخطيط أو مسار أو كونك مبتدئًا أو عالمًا، هي خوارزميات تلقي لك بكل ما يرتبط بالكلمات الدلالية التي جذبتك مرة بغض النظر عن أي اعتبار آخر سوى اعتبار وجودك في الموقع أطول وقت ممكن، واشتياقك للعودة إلى حالة تعطيل العقل التي تمنحه لك هذه الصفحات الرئيسية، كعاملٍ غربيّ ينتظر نهاية الأسبوع بشوق ليعطل عقله تمامًا عن الحياة والتفكير، بكؤوس من أم الخبائث.
* * *
وهذا يفسر كيف أن البعض لا زال غارقًا تحت ضغط حسابات تابعها في زمنٍ وافق ظروفًا إقليمية وعربية وتسويقًا لحسابات وقنوات ومواقع تخدم مشروع الفوضى في المنطقة، ولم يخرج عنها مقدار أنملة، ليس خروجًا (ينسلخ) فيه من قوقعة الآراء المتراكمة التي احتقن بها عقله من تلك المصادر، بل خروج مراجعة وتساؤل ومحاسبة للنفس كما يقولون.
تخيل معي شابًا تابع في ٢٠١٤م هذه الحسابات (وهي كمثال):
تويتر وفيسبوك: رصد - محمد الصغير - شيوخ السرورية وشبابهم - الشنقيطي - فيصل القاسم - أحمد منصور - مجتهد (الذي هو سعد الفقيه) - العهد الجديد - محمد اليحيا (وهو صحفي خليجي وليس سعودي.. مشهور) - عبدالله النفيسي - طارق السويدان - ياسر الزعاترة - أحمد فهمي - شؤون استراتيجية (أبو عرب) - عمر الزهراني وبشكته - بقية إخوان الكويت وسروريتهم - وبقية الإخوان الهاربين لتركيا وسروريتهم - انفوجرافيك الدرعية - حقوق الضعوف - تركي الشلهوب (الذي هو عمر الزهراني).
يوتيوب: عبدالله الشريف - جو شو - Aj+ - سعد القحطاني من الكويت - الفقيه - المسعري - نيزك في زمن خلا - بكوس - الجزيرة وفروعها.. إلخ.
سناب شات - أنستقرام: كثير من الشخصيات أعلاه ممن يتواجد هناك.
هذا الشاب كلما دخل الصفحة الرئيسية يُدار ويوجه فورًا من جهات معروفة كانت (ولا زالت) ترسل رسائل محددة وواضحة عن الأحداث الماضية والحاضرة عبر كل هذه القنوات، وتشيطن الدول العربية المستقرة، بمعنى أن هذا الشاب كلما دخل موقع التواصل، يصله الضخ الموجه والبرمجة التي تستهدفه كأداة، والتي هي نتاج غرف العصف الذهني في جهات استخباراتية لطالما استهدفت شباب العرب والخليج والسعودية بالتجنيد والسيطرة على أفكارهم وانتماءاتهم.
ولا يشترط أن كل هذه الحسابات مرتبطة بتلك الجهات وظيفيًا، فكثير من الارتباط ارتباط تأثّر وانتماء عاطفي أو فكري أو سياسي، دون أن يكون هناك ارتباطًا وظيفيًا، أقول لا يشترط، لكن حصوله غير مستغرب، وقد تتم برمجة شاب على يد آخر مبرمج هو كذلك، فتُمتطى المطية.. من مطية أخرى.
كيف يمكن أن يقاوم الإنسان مثل هذا الضخ طوال تلك السنوات؟
الإنسان هش؛ يتأثر بكلمة، وتغير حياته كلمة، وتحطمه كلمة، فكيف بالله عليكم بضخّ يوميّ متتابع ومقصود وبشتى الوسائل يغزو صفحاته الرئيسية بناء على اختيار متابعات قديمة في زمن خلا وولى، ونسي تمامًا ظروف تلك الاختيارات، لكن أدوات ذلك الزمن باقية، لتُبقي وميض الجمر في نفسه مهما تراكم رماد الاستقرار، فإن لم يكن نارًا موقدة، تحول في أوقات الهدوء إلى (ثكلى) ينوح على كل قرار إداري أو اقتصادي على نهج عبدالله بن سبأ، وكلاسيكيات صناعة الفتنة، ويحيطه بالمبالغات وانتظار الشر من بلده وسوء الظن، كما كانوا يصنعون في زمنٍ مضى (يرثونه اليوم)، حين كانوا يهجون شبابنا ومجتمعنا بأوصاف التغريب والانحلال وقرب الشر وإحاطة العقوبات الربانية (الملتزمة بحدود سايكسبيكو في هذه النقطة لسبب ما!) لوجود محل فيديو يبيع أفلامًا في زاوية الشارع، ولكون الشباب يلعبون (هَند!).
بل يبلغ الأمر به إلى مرحلة يصل لها البعض، وهو الحظر (الوقائي)، حيث يقوم بحظر أكبر كمية ممكنة من المخالفين لآرائه خشية أن تمر أمام عينيه، لأن طول المكث على رتم معين في صفحاته الرئيسية يجعله مرعوبًا من أي تغيير فيها، أو حتى مجرد النظر إلى ما سواها.
أعتقد أن أكثر الناس صلابة ومروءة لو ملأ صفحته الرئيسية في مواقع التواصل بمتابعات رقص الباليه؛ لرأيته يرقص باليه في «حوش» بيتهم بعد سنوات قليلة، إن الصفحة الرئيسية في مواقع التواصل نسخة أكثر تأثيرًا من زمن تأثير الإعلام التقليدي، وأكثر خطورة وتنوعًا، لكثرة روادها، ولتآزر الكلمة والصوت والصورة والفيديو لأجل سحبك إلى مشاريع أو اهتمامات أو سلع تتجدد وسائل عرضها كل عدة ثواني، فلا يوجد ما يفوتك في الصفحة الرئيسية، إنها دوامات لا تتوقف، إن فلتّ من واحدة لعدم دخولك في أثناء عصفها، فستدخل فيما بعد لتجد عشرات الدوامات التي تنتظرك لتسحبك داخل أعماقها.
هذا غير فئام من الناس، صفحتهم الرئيسية أشبه بسوقٍ، العملة المتداولة فيه هي (أوقات الناس)، ويتم صرفها كمشاهداتٍ لها متوسّط مكوث ومعايير تتحول إلى أموال لهم ولشركات التسويق التي يتعاملون معها، وهي مليئة بمشاهير حولتهم شركات التسويق إلى صناع محتوى تسويقي، بعد أن كان المحتوى في بداياتهم يعبر عن مواضيع يهتمون بها حقيقةً، وتقدح في أذهانهم عفو الخاطر، ومعيارهم فيها النفع والانتفاع، فلا يتتبعون الترند، ولا يدسّون إعلانًا في أذهان المتابعين.
ولا تتوقع أن تجد حلًا داخل نطاق هذه الصفحات، فهو سِمَة لها، وكانت ولمّا تزل عنصر تشتيتٍ وتجنيدٍ وتنويمٍ مغناطيسي وبرمجة وما إلى ذلك من القبائح التي تؤثر في اختيارات الإنسان ومساره وأهدافه ونفسيته، حتى أكثر الناس وفاء لتخصصه، وعمقًا فيه، وبحثًا عن نفع الناس، لن تجد في صفحته إلا شذرات لا تبني معرفة، ولا تقدم لك حتى طرف الخيط، بل قِطَع هنا وهناك، وحتى تلك الجهات التي تجنّد العقول وتستولي عليها، تحتاج منك إلى متابعة أكبر قدر ممكن من حساباتها حتى تستولي عليك، وهذا ما نجحوا فيه لسنوات.
وكم من شاب يرفع شعارات الحرية والاستقلال بالرأي والاعتزاز بالنفس وهو كَرِيشةٍ في مهبّ الريح، تضطرب في كل اتجاه، الثابت في سلوكها.. الفوضى، فهو إمّعةٌ لصفحته الرئيسية، إن أحسن الناس فيها أحسن، وإن تنمروا تنمر، وإن أساؤوا أساء، وإن بكوا بكى معهم لا يدري تفاصيل ما يبكون لأجله، إن امتلأت الصفحة الرئيسية بعشرات المخدوعين بالأخبار الزائفة، انخدع معهم، وإن نفوا الحقائق الملموسة نفاها، لا يتجرأ أن يقف أمام سيل الصفحة الرئيسية ولو برأي واحد مخالف كل هذه السنوات، فإما أن يدخل التطبيق وينجرف مع تيارها، أو يغلقه ويتكئ على مكتسبات البرمجة الماضية، ويصير (مرسول) المشاريع الهدامة في المجالس والحالات والقروبات والقنوات.. وما إلى ذلك.
بل إن البعض يعتبر (حافظة) لما يتردد ويتكرر في صفحته منذ سنوات، فحين تناقشه، لن يرد عليك هو، بل ستجد نفسك متخشّبًا أمام منظر مخيف ترى في شخصًا كان يملك عقله وعلمه وتقواه يتحول فيه لآلة أو ببغاء، (يسمّع) لك صفحة (الفتنة) الرئيسية، بالمصطلحات المتكررة فيها وأفكار ومناهج الحسابات التي يتابعها ورسختها في عقله لسنوات، كما لم يسمّع قِصار السور من القرآن.
وصدقني، لن تقول له: ارجع وراجع ثمّ.سمّع من جديد!
أحسنت أخ راكان والله
ردحذفلكن ليتك تطرقت لمثال أوضح على فكرتك
وهو تطبيق تكتوك الذي حوّل بعض من نعرفهم من عقلاء الرجال وبعضهم يدرجون نحو الستين من أعمارهم وبعضهم موظفين مرموقين في شركات وقطاعات لمهرجين يتراقصون من أجل التكبيس والدعم أو يضعون أنفسهم في مواقف اعتبرها فضيحة لصغار السن فكيف بمن يفترض أنهم قدوات في وظائفهم وأولادهم وأحفادهم؟
كنا نقرا عن اثر الانترنت السيء وكان عن مضيعة الوقت وجرحه لمجالس الناس والان اختلفت الآثار وتضاعفت لدرجة لا نلحق فيها على استيعابها